عمل، وتعرف أن في الاعتذار له بهذا الحال ما يثير في نفسه ألماً، فتعرض عن ذكر ما يؤلم، وتذكر له وجهًا غيره مما هو واقع، حتى لا تجمع له بين الحرمان من بغيته، وإيلامه بما لا يجب أن يعتذر له به.
أصاب الكسائي وَضَح (برص)، وهو مؤدبُ أبناء هارون الرشيد، فكره الرشيد ملازمته لأولاده، فقال له: كبرتَ في السن، ولسنا نقطع راتبك، وأمره أن يختار لهم من ينوب عنه ممن يرضاه، فاختار لهم علي بن الحسن المعروف بالأحمر. ولا ريب أن اعتذار هارون الرشيد للكسائي بكبر السنن أخف على نفسه من أن يقول له: أُصِبْت بوضَحٍ، ولسنا نقطع راتبك.
فالنفوس المطبوعة على المداراة، نفوس أدركت أن الناس خلقوا ليكونوا في الائتلاف كجسد واحد، وشأن الأعضاء السليمة أن تكون ملتئمة متماسكة على قدر ما فيها من حياة، ولا تنكر عضوًا ركب معها في جسد، إلا أن يصاب بعلة يعجز الأطباء أن يَصِفوا له بعدُ دواء.
فالمداراة يُبتغى بها رضا الناس، وتكليفهم في حدود ما ينبغي أن يكون، فلا يُبعدك عنها قضاء بالقسط، أو إلقاء النصيحة في رفق، فلم يخرج عن المداراة أبو حازم حين دخل على سليمان بن عبد الملك، وقال له:"إنما أنت سوق، فما نفق عندك، حمل إليك؛ من خير أو شر، فاختر أيهما شئت".
ترجع المداراة إلى ذكاء الشخص نفسه؛ فهو الذي يراعي في مقدارها وطريقتها ما ينبغي أن يكون، ولأسباب العداوة مدخل في تفاوت مقادير المداراة، واختلاف طرقها، فإذا ساغ لك أن تبالغ في مداراة من ينحرف عنك لخطأ في ظنٍّ يظنُّه بك، أو لعدم ارتياحه لنعمة يسوقها الله إليك، فلمداراة من يحارب الحق والفضيلة إن صادفك واقتضى الحال مداراته، حد قريب، ومسحة من