المناطقة استنبطت هذه القوانين التي تساعد العقل السليم على أن تكون آراؤه صائبة، وحججه ساطعة. وعبقرية علماء العربية جعلت مقاييس اللغة ومحاسن بيانها في متناول نشئنا يجرون عليها في خطبهم وأشعارهم، فيسترعون الأسماع، ويأخذون بالألباب.
وهكذا ننظر إلى كل فن من الفنون التي تقوم عليها المدنية الفاضلة الرائعة، فنجده وليد العبقرية التي تخرق القشر، وتنفذ إلى اللباب.
فحاجة العلم إلى العبقرية لا يقضيها الجماعات التي تقنع بالحفظ وإن كثروا، ومما ينبه لهذا المعنى قول محمد بن عيسى القوصي يرثي العلامة ابن دقيق العيد:
لو كانَ يقبَلُ فيك حتْفُكَ فِديَةً ... لَفُديتَ من عُلمائنا بألوفِ
* أثر النبوغ في شرف الأمة:
للنبوغ في عظمة الأمة حظ كبير، لذلك نرى الشعوب والقبائل يباهي بعضها بعضاً بالنابغين في علم أو أدب أو سياسة، وانظروا إلى رسالة كتبها أبو الوليد الشقندي في فضل الأندلس على بر العدوة، وقد ملأها بقوله يخاطب أهل العدوة: هل لكم في علم كذا مثل فلان وفلان؟ وذكر البارعين في الفقه والنحو والأدب والشعر والتاريخ والهندسة.
ولابن حزم رسالة نوّه فيها بفضل الأندلس، فذكر طائفة من جهابذة تلك البلاد: يقيسهم ببعض علماء الشرق وأدبائه، فيقول مثلاً: فلان نباهي به جريرًا أو الفرزدق، وفلان نسابق به محمد بن إسماعيل البخاري، وفلان نناطح به محمد بن الحكم، وفلان وفلان لم يقصرا عن أكابر أصحاب محمد ابن يزيد المبرّد.