للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نوَّه التنزيل بشأن المصلحين، ثم أنحى باللعنة على من يؤتون الحكمة ولا يبسطون ألسنتهم ببيانها، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: ١٥٩]. فالآية نزلت في وصف حال فريق من غير المسلمين؛ ولكن حكمها- وهو استحقاق اللعن- لا يقف عند حدَّهم، بل يجري على كل من درس آيات الله، أو قبض قبضة من أثر هدايته، ثم أمسك عن بيانها، والناس في جهالة أو حيرة يتخبطون. وكذلك يقول علماء الأصول: إن مقتبس الأحكام من الآيات لا يقتصر على سبب نزولها، بل يمشي في تقرير معانيها على قدر ما يسعه عموم لفظها.

الحقائق التي لا يسوغ كتمانها هي ما ينبني على العلم به أثر في صحة اعتقاد، أو أدب نفس، أو استقامة عمل، فإن كانت من قبيل ما هو من مُلح العلم، فلا حرج عليه في احتكارها، والسكوت عن بيانها. حكى الشيخ ابن عرفة في درس تفسيره: أنه دخل على شيخه ابن الحباب، وجعل ينظر في كتبه، فمنعه من استيفاء النظر فيها، وقال له: للشيخ أن يمتاز عن طلبته بزيادات لا يخبرهم بها.

وعمد بعض الناس لعهد الصديق - رضي الله عنه - إلى قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: ١٠٥]، فتأوله على غير صواب، فقام الصدّيق خطيباً، وقال: إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: ١٠٥]، وتضعونها في غير موضعها، وإنني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولم ينكروه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب".