وأما الأساليب الحكيمة، فتكتسب من النظر في سيرة الدعوة المحمدية، وسيرة الدعاة البلغاء في نصائحهم التي يوجهونها إلى الطوائف الخاصة أو الجمهور. يقولون: الموعظة ثقيلة على السمع، مستحرجة على النفس؛ لاعتراضها الشهوة، ومضادتها للهوى، حتى قال يونس بن عبيد:"لو أمرنا بالجزع، لصبرنا"؛ يشير: إلى ثقل الموعظة على السمع، وجنوح النفس إلى مخالفتها. ولكن صوغها في أسلوب راع يجعلها خفيفة على السمع، سهلة النفوذ إلى القلب، وقد تكون معاني الموعظة حاضرة في ذهن الشخص، ولا يجد في نفسه تأثراً بها، حتى إذا عرضت عليه تلك المعاني في أسلوب بارع، وقعت منه موقع الإعجاب، كأنها معان جديدة لم يسبق له بها علم.
خرج الزهري يوماً من عند هشام بن عبد الملك، فقال: ما رأيت كاليوم ولا سمعت كاربع كلمات تكلم بهن رجل عند هشام: دخل عليه فقال: احفظ مني أربع كلمات فيهن صلاحُ ملكك، واستقامة رعيتك، قال: ما هن؟ قال:"لا تعد عِدة لا تثق من نفسك بانجازها، ولا يغرنكّ المرتقى وإن كان سهلاً، إذا كان المنحدر وعراً، واعلم أن للأعمال جزاء، فاتق العواقب، وأن للأمور بغتات، فكن على حذر". ومعاني هذه الموعظة لا تغيب - فيما أحسب - عن أمثال الزهري، وإنما جاء إعجابه مما كسيت به من الإيجاز الساحر، وسلامة الألفاظ، وجمع الحكم الأربع في نسق جعلها كعقد ملتئم الدرر، محكم التأليف.
وأما التجمل بالتقوى في السر والعلانية، فيستمده الواعظ من قوة الإيمان بأن الله يعلم ما يسر الناس وما يعلنون؛ ومن تيقنه بأن دعوته إلى فعل شيء