فبلغ ذلك الشيخ علاء الدين الجمالي، فدخل على السلطان وقال له: وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وهؤلاء الرجال لا يجوز قتلهم شرعاً، فعليك بالعفو عنهم. فغضب السلطان سليم، وقال للشيخ: إنك تتعرض لأمر السلطنة، وليس ذلك من وظيفتك. فقال: لا، بل أتعرض لأمر آخرتك، وإنه من وظيفتي، فإن عفوت، فلك النجاة، وإلا، فعليك عقاب عظيم، فانكسرت سورة الغضب في نفس السلطان، وعفا عن أولئك الرجال الذين كان قد أمر بقتلهم.
ومن العلماء الحكماء من يسلك في وعظ الأمراء طريقاً غير صريح؛ إذ يراه كافياً في إبلاغ النصيحة. قدم الشيخ أبو بكر بن سيد الناس حاضرة تونس في عهد المنتصر بالله، ولما دخل على الأمير، أمره أن يقرأ بين يديه آية من القرآن، فقرأ:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}[آل عمران: ١٥٩] فاستحسن المنتصر قراءته وقصده، وكان ذلك سبب حظوته، ورفعة منزلته عنده.
ومن العلماء من يأخذ في نصح الأمراء بالعزيمة، ويوطن نفسه على احتمال كل ما يمكن أن يلاقيه من أذى. وقد صبر رجال من كبار أهل العلم أيام فتنة القول بخلق القرآن، على ما أصابهم في الدين من أذى، واحتملوا أشد العذاب، مثل: نعيم بن حميد الذي توفى في سجن الواثق، وأحمد بن نصر الخزاعي الذي قتل في عهد الواثق، وأحمد بن حنبل الذي سجن وضرب في عهد المعتصم، ومثل أبي يعقوب البويطي الذي حمل مقيداً من مصر إلى العراق، حتى مات في أقياده.
ومن العلماء من يرى أن له فيما يلحقه من الأذى عذراً في السكوت