إذا شبّ في مدينة انتشرت فيها الفضيلة، وزخرت فيها المعارف، يغلب على الظن أنه التقم ثدي التعليم ناشئاً، أو ترشح خلقه بالأدب منذ كان صبياً، فيكون علمه أو أدبه ثابت الدعائم، واسعَ المجال. ونسي أسارى الأوهام هذه الملاحظة، فجرى إلى معتقدهم أن الولادة بمدينة علم أو فضل تعد لصاحبها مزية، وإنْ كبر سنه مع الهمج، وولج بعقله في حلق الحمقى.
يخيل لكثير من أبناء الحواضر والقبائل: أن ولادة الشخص على تراب بلادهم من أرجح النعوت التي توضع في وزنه، وتستدعي إيثاره بكل مكرمة. ولم يتيقظ هؤلاء إلى أن هذه الطبيعة بقية مما ترك الجاهلية الأولى، وقد جاء القرآن بمحو آثارها من النفوس المسلمة، وتعليمها الاعتبار برابطة الإيمان، فقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: ١٠]، والوطنية التي تتلاقى بآداب الإسلام: أن يؤكد الرجل الرابطة مع من يضمهم وإياه وطن أو بلد، سواء تمخضت بهم أمهاتهم على تربته، أو استهلوا تحت سماء غير سمائه، ثم طوحت بهم طوائح القدر إليه؛ إذ المراد من تأكيد هذه الرابطة: إنما هو تبادل المنافع، والتعاون على المصالح المشتركة، ومتى صلح الوارد على أرض لأن يكون عضواً عاملاً في مطالب الحياة الاجتماعية، وقف في نظر العقلاء من ساكنيها بجنب الناشئين على ظهرها، حتى إذا ما دعوا إلى مقام الترجيح بينه وبين غيره، دخلوا إليه من ناحية القوة على عمل المصالح، والقيامِ بأعبائها.
يدرك الرؤساء العادلون هذه الحقيقة، وكذلك الفضلاء الذين يرتلون قول خالقهم في وصف الأنصار:{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}[الحشر: ٩]، فيترفعون بأنفسهم أن تستعبدها الطبائع غير