للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإخلاص من عهدة التكاليف، ولا يرد العقوبة على المظالم في الآخرة، قال - صلى الله عليه وسلم - فيما روى مسلم: "من أبطا به عمله، لم يسرع به نسبه"، ولا متمسك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: ٢١] على أن الأبناء الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، يلحقون بمراتب آبائهم بدون أن يذوقوا عقوبة ما صنعوا؛ فإنه يقول بعد ذلك: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: ٢١]، وهل يأخذ النسب الفاضل بقسط من الكرامة، بعد أن يخلص صاحبه من تبعات التكاليف العامة؟

قد يستدل لصحة هذا بآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ}؛ فإن أولئك الذرية - في رأي الجمهور - لم يتأهلوا بأعمالهم وحدها أن يرتقوا إلى منازل آبائهم الذين هم أحسن عملاً وأوسع براً، وإنما رفعوا إليها؛ تتميماً لنعمة الآباء، وتوفيراً لأنسهم.

لعلك تستشرف إلى تقرير التوافق بين هذه الآية القاضية بأن الكرامة قد تزداد بطريق غير التقوى، وهو النسب، وبين قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣] المصرّح بأن التفاضل في الكرامة عند الله إنما يكون على قدر التفاوت في التقوى، فنقول في وجه الجمع بينهما: إن الرجل تارة يتأهل لدرجة من الكرامة بكمالات نفسه، وتارة لا تبلغ به مساعيه إلى ذلك المقام، بحيث لو ينظر إليه منفرداً، لقصرت وجاهته أن يحل بساحته، ولكن يفسح له في الدخول فيه تبعاً لعظيم ينعم باله، ويبسط أنسه أن يراه نازلاً بجواره، فهذا التابع، وإن حشر في زمرة متبوعه، وألحق به في المنزلة، فإن إجلال المتبوع عند رب المنزل كمل، ورضاه عنه في نفسه أوفر. فإذا أريد من الكرامة في الآية الثانية: العناية والمحبة النفسية، لا الإنعامات الظاهرة،