للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هو حائد عن طريقته، فانظر إلى قول المجنون:

كأنّ القلبَ ليلةَ قيل يُغدى ... بليلى العامريةِ أو يُراحُ

قطاةٌ غرَّها شَرَكٌ فباتت ... تعالجه وقد عَلِق الجناحُ

فترى الخيال هنا قد تجوَّل حتى تصيدَ معنى القطاة، ووقع على الشرك، ثم انتزع منهما هذه المعاني، وهي وقوع القطاة في الشرك، وعلوق جناحها به، ومعالجتها له كي تتخلص منه، وضم بعضها إلى بعض، فانتظم ذلك المعنى المركب، وانعقدت المشابهة بينه وبين حال القلب الذي وقع في حب العامرية، فأخذ يرتجف وجلاً من لوعة الفراق.

ولو نظر شاعر إلى أزهار مفتحة بمكان منخفض الأرض، وقال مثلاً:

هذه الأزهار في منظرها ... وشذاها مثل أزهار الربى

لاستبردتَ شعره لأول وهلة، وأخذت تهزأ به كما هزأت بقول الآخر:

كأننّا والماءُ من حولنا ... قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ

بيد أن ذلك التشبيه نفسه، لو يصدر من العالم بالنبات في الرد على من يدعي أن هذه الأزهار ليس لها لون ولا نفحات عاطرة كالأزهار التي تنبت على الربى، لأصغيت إليه سمعك، وتلقيته منه بكل وقار، وما ذاك إلا لأن الأول قابله بوصف كونه شاعراً، ولم يأت فيه على عادة الشعراء بشيء من التخييل، وأما الثاني، فإنما ألقاه إليك في صدد البحث عن الحقيقة، فلا تنتظر منه أن يصله بشيء من عمل الخيال.

والاستعارة يصنع فيها الخيال ما يصنع في التشبيه المجرد من الأداة، إلا أنها تعرض عليك المشبّه في صورة المشبه به؛ على وجه أبلغ، ولا سيما