ومثل هذا مما يرجع بالتفضيل فيه إلى القوانين السابقة، فما كان أقل خطوراً على الذاكرة، أو أوسع نطاقاً في التخييل، أو ألذ وقعاً على الذوق، فهو المشهود له بمزية الرجحان. ومن الجليّ أن تشبيه الكريم بالبحر من المعاني التي وعاها كل قلب، وتناولها كل إنسان، فصاحب البيتين الأخيرين بنى محاورته على أمر اشتهر ذكره عند الحديث في هذا الغرض، وإنما زاد عليه شيئاً من التخييل، فتكون المحاورة الأولى أبدع؛ لأنها قائمة من أول حالها على شعور غريب، فضلاً عما امتازت به من الإيماء إلى دعوى قصر الندى على الممدوح، وهذا ما يجعلها أبلغ في الدلالة على ما يرمي إليه الشاعر من غرض الوصف بالسخاء.
ويدخل في هذا القسم قول عنترة:
ولقد ذكرتكِ والرماحُ نواهلٌ ... منّي وبيضُ الهندِ تقطر من دمي
فوددت تقبيلَ السيوفِ لأنها ... لمعت كبارقِ ثغرك المتبسمِ
مع قول بعضهم:
ولقد ذكرتُكِ في السفينة والردى ... مُتوقَّعٌ بتلاطم الأمواج
وعلى السواحل للأعادي جولةٌ ... والليلُ مسوَدُّ الذوائبِ داجي
فعلت لأصحاب السفينةِ ضجةٌ ... وأنا وذكرُكِ في أَلذِّ تناجي
فغرض الشاعرين واحد، وهو أنهما ذكرا الحبيب في حال تقتضي لشدة هولها وعظم خطرها دهشة القلب، وتفرغه لانتظار الفرج، أو الاحتيال على وسيلة النجاة، وإنما يصح لنا أن ندخل للمفاضلة بين الشعرين إذا كانا من التخييل المحض، فنقول: إن شعر عنترة أبلغ؛ لأنه صوَّر ذكره للحبيب بوقوعه