لئن بكيتُ دماً والعزمُ من شيمي ... على الخليط فقد يبكي الحسامُ دما
لم تجد الطريق إلى التفضيل بينهما أمراً ميسوراً. وليس لك أن تعول على ابتهاج النفس واهتزازها، وتجعل تفاوته ميزاناً للتفاضل؛ لأن شدة الابتهاج لسماع الشعر قد تكون تابعة للعواطف والأهواء، فمن رقت عاطفته لولده الصغير حتى كاد قلبه يذوب لنظراته المكحولة بالتبسم، يهتز لقول أحمد بن دراج:"ولحظه بموقع أهواء النفوس خبير" بأشد مما يهتز لغيره، ومن لم يذق حلاوة العطف على البنين، وكان كلفاً بمواقع الحروب، مغرماً بالحديث عن آثارها، يلتذ ببيت بشّار أكثر من التذاذه ببيت ابن دراج وما ذكر بعدهما.
فلا أنكر أن يكون بين التخيلات المختلفة في المعنى والغرض فرق جليّ، وتفاوت واسع من جهة التركيب أو الغرابة، فيبني عليه الأديب حكمه بالتفضيل، وإنما أعني: أن الأشعار المتفقة في معنى أو غرض تجد المدخل للمفاضلة بينها سهلاً؛ إذ يتبين لك التفاوت بينها في التركيب، أو الغرابة من غير إطالة نظر، وعلى فرض اتحادها في ذلك، يمكنك الرجوع إلى وقعها على حاسة الذوق، وأخذها بالروح التي يتقوم بها المراد من الكلام، وأما الأشعار المختلفة في المعنى والغرض، فيتيسر القضاء فيها متى كان التفاوت بينها جلياً، فإذا كانت في مراتب متقاربة في الغرابة والتركيب، والتمكن من روح المعنى، أو الغرض الذي أفرغ فيها، فباب المفاضلة بينهما لا يطرقه إلا الماهرون في هذه الصناعة، حيث وصلوا إلى أن هذا الشعر لم يتجاوز في الغرض الذي عبّر عنه الدرجة الوسطى مثلاً، وأن الآخر انتهى في وجهته