أنهم سبقوا إلى الحديث عنه؛ فإن الحديث عن بعض فنونه قد جرى من قبل أن يظهر علماء الكلام، ومما يمنع المحاضر أن يريد من نشأة البيان عند المتكلمين: مبدأ الحديث عنه: أنه يعترف بشيء من هذا الذي يقوله حازم؛ إذ يقول في محاضرته الأولى:"إن الشعراء في آخر العصر الجاهلي كانوا قد وصلوا إلى تعلم الشعر بالصناعة"، وبعد أن ذكر تعليم أوس بن حجر زهيراً، وتعليم زهير ابنه كعبًا والحطيئة، وتعليم الحطيئة لكثير من شعراء الإسلام، قال:"وليس من شك في أن المعلمين كانوا حين يستحسنون شعراً يقولون: استحسن لكذا، وحين يستقبحونه يقولون: استقبح لكذا. وهذه العلل التي يذكرونها في الاستحسان إنما هي أوجه البديع".
ولا أظن المحاضر يقصد بقوله:"إنما هي أوجه البديع" إلى أن الذي كان يتعلم في الجاهلية أو في صدر الإسلام هو البديع دون غيره من فنون البيان؛ فإن الروايات في هذا الباب مطلقة، وقد سمعتم قول حازم:"لاستخرج منه علماً كثيراً موافقاً للقوانين التي وضعها البلغاء في هذه الصناعة".
وهذا المحاضر يعد فيما أخذه البيانيون من الجاهليين لفظ الإيجاز والمجاز، فيقول في المحاضرة الأولى:"وهناك ألفاظ أخذها البيانيون عن الجاهليين، ولم يضعوها, ولم يخترعوها اختراعاً؛ فقد عرف شعراء الجاهلية ألفاظ الإيجاز والأسباب والمجاز، وغير ذلك من الألفاظ".
ونحن لا نثق بأن كلمة المجاز بالمعنى الذي يريده البيانيون من أوضاع الجاهلية؛ إذ لا نعرف له شاهداً في شعر أو نثر، ولو كان معروفاً عند العرب بهذا المعنى، لاتخذ الجمهور من هذا الاستعمال حجة على من أنكروا أن يكون في كلام العرب مجاز، وما رأيناهم يفعلون.