الكلام صحيفة تشتمل على شيء من أصول الخطابة وآدابها، فإن بشراً هذا كان معدوداً في أكابر البلغاء، فيصح أن يكون ما في هذه الصحيفة صادراً من ناحية ما تجمَّع لديه من وسائل البلاغة، لا من ناحية كونه متكلمًا؛ إذ لم يكن ما تحمله تلك الصحيفة بعيدَ المأخذ من مدارك البلغاء ونقاد الخطب ممن لم يدرسوا علم الكلام.
والصواب فيما نرى: أن نبحث عن نشأة علم البيان من طريق البلغاء وعلماء العربية، وسواء بعد هذا أكان البليغ أو العالم بالعربية من علماء الكلام؛ كالجاحظ، وبشر بن المعتمر، أم لم يملك سوى مزية البلاغة، ولم ينظر في غير علوم اللسان.
إذا وجهنا النظر إلى صدر الاسلام وعهد الدولة الأموية، وأخذنا نتحسس من الكلمات التي تقع على ناحية من نواحي علم البيان، نجد آثاراً تعزى إلى بلغاء من رجال ذلك العصر، مثل ما يروى في تعريف البلاغة عن الإمام علي ابن أبي طالب، وابنيه الحسن ومحمد بن الحنفية، وكما يروى عن يزيد بن معاوية في شأن الفصل والوصل، إذ يقول:"إياكم أن تجعلوا الفصل وصلاً؛ فإنه أشد وأعيب من اللحن". ونجدهم ينبهون في مقام النقد على شيء من فنون البيان.
ومثل هذا: قصة ذي الرمة حين أنشد بلال بن أبي بردة قوله:
فقال بلال: يا غلام! اعلفها قتاً ونوى. قال هذا تعريضاً بقلة فطنة ذي الرمة للوجه اللائق بالمديح، ونقرأ في هذه القصة: أن أبا عمرو أحدَ الحاضرين لإنشاد البيت قال لذي الرمة بعد أن انصرف: هلّا قلت له: إنما عنيتُ بانتجاع