"وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم"(١)، وحيث أصبحت هذه الممالك مع الجزيرة العربية في أمن وسلم، فلا شيء يمنع المقيمين بها من الرجوع إلى الشعر، وصرف الهمة في روايته، ونحن نرى أن رواية الأشعار لم تنقطع حتى في الأيام التي استعرت فيها نار الحرب بين المسلمين ومشركي الجزيرة، وغاية ما طرأ على الرواية: أن خمل سوقها، وذهل أكثر الناس عنها، وليس الشعر بعمل يدوي حتى يقال: إن العرب نكثوا أيديهم منه جملة، ووضعوها في قبضة الحسام والعنان، وإنما هو عمل اللسان، فيصح أن يكون سلوة النازح عن وطنه، وسمر من يبطئ عنه نعاسه، وليس من البعيد أن يتناشدوه قبيل الزحف، وعقب الظفر، ففي الشعر ما يحمل على الثبات، وفي الشعر ما يلقي بالنفوس في معترك المنايا، وفي الشعر ما يقلب الجبان بطلًا لا يرهب الردى.
وأما قول (مرغليوث): إن رواية الأشعار حفظاً لا تتيسر إلا إذا كانت وظيفة أشخاص يقومون عليها باستمرار، فمنشؤه الذهول عن عناية العرب بالشعر، وشغفهم بروايته، حتى أصبحت صناعة بالغة من الرواج إلى أن لا يحتكرها فريق معلوم، ودعواه أن الحروب الأولى حصدت كل من يروي شعراً عن الجاهلية، ملقاة على غير بينة، بل على غير روية، إذ من البديهي أن الحروب لم تسحق الجيوش الفاتحة على بكرة أبيها، فمن الجائز أن يبقى في هؤلاء الجنود الظافرين من يروون شعراً كثيراً، ولا سيما حيث نلحظ أن الرواية لا ينقطع معينها، ولا يسكن ريحها، ولو بين القوم الذين يصلون نار الحرب بكرة وعشيّا، قال الإمام عليّ في خطبة خطبها أهل الكوفة: "إذا