وأما الزهد، فجروا فيه على معنى: إيثار العزلة والانقطاع عن المجتمع، ونفض الأيدي من كل أمر ما عدا العبادات؛ من نحو: الصلاة، والصيام، فانصرفوا عن كل ما تخيلوه أمراً دنيوياً، وكان من جملة ما تخيلوه أمراً دنيوياً: إعداد وسائل الدفاع، والنهوض إلى الدفاع، وبهذا فقد الزهد المشروعُ ركناً من أركانه الذي هو مكافحة الباطل، وحماية الحقوق العامة والخاصة حسب الطاقة.
وكثيراً ما تظهر الروح العسكرية في آداب أهل العصر، فمن البعيد أن تسمع من جبان يعيش في بيئة مقهورة أمثال قول الشاعر:
حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم ... ولَوَوا عمائمهم على الأقمار
إن خَوَّفوك لقيت كل كريهة ... أو أَمَّنوك حللت دار قرار
وإنما تظهر الصورة الرائعة من معاني الحرب والحماسة في عهد أو موطن يُعنى فيه القوم بملاقاة الحروب، أو التأهب لها.
وأنشأ عبد الرحيم بن نباتة خطباً طافحة بمعاني الدفاع والتشويق إليه،
فأبدع فيها ما شاء، حتى قالوا: إنه لم يؤلف في هذا الغرض مثلها، وإنما اتجه ابن نباتة هذا الاتجاه، وبرع هذه البراعة؛ لأنه كان يعيش بحلب في عهد سيف الدولة، وكان سيف الدولة كثير الغزوات، وذلك العهد أملى على المتنبي كثيراً من المعاني المتعلقة بالحرب والشجاعة، وبمثل ذلك ارتقى شعره، وازدهى بكثير من الحكم السامية، كما قال:
عش عزيزاً أو مت وأنت كريمٌ ... بين طعن القنا وخفق البنود
وقال:
وقفت وما في الموت شك لواقفٍ ... كأنك في جفن الردى وهو نائمُ