ورحل أبو الوليد الباجي من الأندلس في طلب العلم حتى دخل بغداد في حالة بؤس، وكان في إمكانه أن يستدرَّ أيدي المحسنين غيرَ مبال بمواقف الهوان؛ كما يفعل كثير من الفقراء، ولكن الهمة التي دفعته إلى طلب العلم أبت له هذه المهانة، واختار أن يتعاطى عملاً، ولو لم يكن مناسباً لمقامه العلمي، فأجر نفسه لحراسة درب بغداد في الليل؛ ليستعين بأجرته على طلب العلم بالنهار.
وأراد عمر بن الخطاب لأهل العلم عزة وكرامة، فوعظهم بأن تكون لهم أعمال تغنيهم عن انتظار ما تجود به عليهم أيدي الأفراد والجماعات، فقال: يا معشر القراء! ارفعوا رؤوسكم، واستبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظَّموه في النفوس لعُظِّما
تجعل البطالة الرجل كلّاً على الناس، فيتنكرون له، ولو كانوا ذوي قرباه.
إذا المرء لم يكسب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لاقى الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلّاً ... وأوشكت صلات ذوي القربى له أن تنكَّرا
وإذا ارتبنا في أن البطالة تقطع صلة الرجل بذوي قرباه، فلا نرتاب في أن الرجل إذا أظهر حاجته إلى رفاقه، أخذت الصلة بينه وبينهم لوناً آخر، وربما نفضوا أيديهم من رفقته، قال أبو العتاهية: