ولما ربى الإسلام أبناءه على إقامة الحق ونصرته ومحبته، والشهادة به والإعانة عليه، ربى فيهم بهذه السجية، خلق الشجاعة في النفوس، فأخرج منهم أمة لا تهاب الخطوب، وترى الموت في سبيل إعلاء كلمة الحق خيراً من ألف حياة يقضيها صاحبها في مشاهدة الباطل يمشي في الأرض مرحاً.
انظروا إلى قول الخليفة الأول أبي بكر الصديق في وصيته لقائده العظيم خالد بن الوليد:"احرص على الموت توهب لك الحياة"، فباقتحام موارد الموت في سبيل إقامة الحق تبرهن الأمة على أنها جديرة بالحق، وبهذا نكون من أهل الحياة، وأن الشهداء من رجالها أحياء عند ربهم، وأحياء في قلوب عباده، والذين لم ينالوا منهم نعمة الشهادة يتمتعون بالحق، وبما يفيضه عليهم الحق من نعمة الحياة. وإلى هذا المعنى يشير الفارس الشاعر حصين ابن الحمام، أحدُ بني سهم بن مرة:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
جلس القائد المجاهد الشهير مسلمة بن عبد الملك، مع أخيه الخليفة الأموي هشام، ذات ليلة، فقال له أخوه الخليفة:
"يا أبا سعيد! هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو؟ "، فأجاب مسلمة:"ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه إلى حيلة، ولم يغشني فيها ذعر سلبني رأيي"، فقال له هشام:"هذه هي البسالة".
ولما كان الحكم والسلطان في إسبانيا للخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر، رفع أحد التجار قضية على الخليفة إلى القاضي الأكبر في عاصمة الأندلس "قرطبة"، وهو العالم الفقيه الورع ابن بشير، فحكم ابن بشير للتاجر على الخليفة، ولم يكتف بإصدار الحكم، بل كان حريصاً على سرعة تنفيذه،