فذهب إلى الخليفة يخبره بنص الحكم الذي صدر عليه، وينذره بالاستقالة من القضاء إن لم يبادر الخليفة بالتنفيذ.
وحتى في أحط أدوار الدولة العبيدية بمصر، دخل الإمام أبو بكر محمد ابن الوليد الطرطوشي على الملك الأفضل، ابن أمير الجيوش بدر الجمالي -وكان الأفضل وزير مصر للمستنصر، والمستعلي، والآمر-، فتكلم الطرطوشي موجهاً الموعظة والنصيحة للملك الأفضل. ولاحظ في أثناء موعظته: أن إلى جانب الملك رجلاً لا يؤتمن على الدولة، ولا تهمه مصلحة الملة، فختم الطرطوشي موعظته بالحديث عن ذلك الرجل غير المؤتمن، وأشار إليه بيده، فلم يكن من الملك الأفضل-لما استشعر من صدق الإمام الطرطوشي وغيرته على الحق وشجاعته في إعلانه - إلا أن أمر ذلك الرجل الجالس إلى جانبه بأن يتنحى عن ذلك المقام.
إن الأمة الضعيفة المسكينة لا تستحق الحياة، وهي لا تقوى وترتقي وتعتز إلا إذا شاع في أفرادها -ولاسيما شبابها، خصوصاً المثقفين منهم - خلقُ الصدق، ومحبة الحق، وتوطين النفس على نصرته، والصراحة فيه، والدفاع عنه. ومن هذا الخلق يولد الجيش الباسل الذي لا يغلب، بل من ذلك الخلق يولد الجيل الفاضل الذي لا يطمع في حق غيره، ولا يطمع غيره في حقه. والحق شطر الإسلام، بل هو عظامه التي تقوم بها بنيته، أما الشطر الآخر، فهو الخير، وهو في مقام اللحم والشحم من بنية الإسلام.
ولم يرد في الإسلام أمر ولا نهي إلا وهو يرجع إلى شعبة من شعب الحق، أو إلى شعبة من شعب الخير. والمسلمون لن يعودوا كإخوانهم الذين حملوا لواء الحق، ونشروا قانونه في الأرض إلا إذا تضلعوا من معين الحق،