ثم إن الأمة التي يجد منها الشعر أذواقاً لطيفة، وإحساساً رقيقاً، شأنها أن تحتفل بالأدباء، ولا ترفع إلا من رفعه أدبه، وذلك ما يدعو إلى التنافس في صوغ القريض، وإطلاق القرائح في مراعيه الخصيبة، وفنونه البهيجة.
تجمعت هذه المهيئات بتونس، فولدت في القرن الخامس نهضة أدبية، قلما تجود بمثلها الأيام، فظهر في هذا العهد رجال أحكموا صناعة القريض، وذهبوا في فنونه كل مذهب، وأتوا بما يسترعي الأسماع، ويأخذ بالألباب.
ولا يسع المقام أن أذكر من عرفتهم من شعراء ذلك العصر؛ وأورد لكل شاعر شيئاً مما قرأته له من الشعر، وإنما أريد أن أسوق شواهد على أن الشعر التونسي في ذلك العهد يساير الشعر الراقي في سائر البلاد العربية جنباً لجنب، وأن شعاره جودة التصرف في المعاني، وإيرادها في صور شيقة، ثم تخيّر الألفاظ المأنوسة الرشيقة ووضعها في سلك الوئام والائتلاف.
فمن الأدباء البارزين في ذلك القرن: أبو علي الحسن بن رشيق، وشعره يدور في كتب الأدب كثيراً، ومن بديع شعره: قوله مخاطباً لشخص كان ابن رشيق قد رجاه في أمر، فساوفه فيه، ثم قطع رجاءه:
رجوتك للأمر المهم وفي يدي ... بقايا أُمَنِّي النفس فيها الأمانيا
فساوفت بي الأيام حتى إذا انقضت ... أواخر ما عندي قطعت رجائيا
وكنت كأني نازف البير طالباً ... لإجمامها أو يرجع الماء صافيا
فلا هو أبقى ما أصاب لنفسه ... ولا هي أعطته الذي كان راجيا