وإدراك أن الممثّل مطابق له، الرجوعُ إلى الاعتقاد بالحق؛ كما ضرب الله مثلاً للدلالة على أنه الإله الحق، وأن الأوثان لا تستحق أن تُعبد، فقال تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ}[النحل: ٧٥].
إذ دلَّ بالمثل على عجز الأصنام عن أن تنفع عابدها بشيء؛ إذ مثَّل حالها بحال العبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، ودل على كمال قدرته؛ إذ جعل في مقابلة العبد المملوك الممثل للأصنام من اتسع رزقه، وكان ينفق منه كيف يشاء، ومن له مُسكة من العقل لا يتولى العاجزَ بالعبادة، ويدع عبادة القادر على كل شيء.
ومن بديع أسلوب القرآن في ضرب المثل: أن يسوق الجمل مستعملاً لها في معانيها الحقيقية، قاصداً بها غرضاً خاصاً؛ كالاحتجاج على بعض العقائد، وبعد أن يفيد بها هذا الغرض يعود إلى جعلها مثلاً يرمي إلى غرض من الأغراض التي تضرب لها الأمثال، فانظروا إن شئتم إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: ١٦، ١٧].
فقوله تعالى:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ... إلى قوله: زَبَدٌ مِثْلُهُ} ظاهر في معنى تقرير حجة على كمال قدرته تعالى، وبعد أن أقام به حجة على المشركين، جعل هذا القول نفسَه مثلاً يستبين به الحق والباطل، فقال تعالى:{كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}، وهذا من الإيجاز الذي بلغ به القرآن أعلى