الحبس، ويتجرَّع مرارة المحنة، حتى التجأ في استعطافه وجلب مرضاته إلى وسيلة الشعر والمديح، وخاطبه بالقصيدة التي يقول في طالعها:
على أيَّ حال لليالي أعاتبُ ... وأيَّ صروفِ للزمان أغالبُ
وقد تنجح شفاعة الشعر لدى الحاكم المطلق، وتأتي بالأثر الذي تذهب الحجج الساطعة دونه عبثاً، وما كان من أبي عنان إلا أن هشَّ للقصيدة -وكان وقتئذ بتلمسان-، ووعد بالإفلاج عن ابن خلدون عند حلوله بحاضرة "فاس"، ولكنه لم يلبث بعد إيابه إلى الحاضرة إلا خمس ليالي، فطرقه الوجع، لقي أجله قبل أن يفي بوعده لابن خلدون.
* خروجه من السجن، وولايته كتابة السر وخطَّة المظالم:
وبعد مهلك السلطان بادر الوزير الحسن بن عمر إلى إطلاق سراح ابن خلدون من الاعتقال، وخلع عليه من الإكرام بُرداً ضافياً، وأعاد إليه ما كان يتقلده من أعمال الدولة.
وعندما استلم السلطان أبو سالم زمام الملك استعمل ابن خلدون على كتابة سرِّه، وألقى إليه الأمر في إنشاء مخاطباته، فعدل بالإنشاء عن طريقة التسجيع، وأخذ به في طريق الترسل -ولم يكن كتَّاب الدولة لذلك العهد من يجيد صناعة الترسل-، فكانت هذه المزية من أسباب تفوقه، وإحرازه قصب السبق في حلبة البيان والتحرير.
ولم تزل مكانته لدى أبي سالم راضية، ولم تزحزحه سعاية ابن مرزوق -التي تناولت أكثر رجال الدولة- عما كان يتولاه من كتابة السر، وإنشاء المخاطبات، بل لم تقف في سبيل تقليده خطةَ المظالم آخر عهد الدولة، حتى ثار الوزير عمر بن عبد الله على السلطان، ونبذ الناس بيعته من أعناقهم.