خرج ابن خلدون باسطاً يد الطاعة إلى أبي العباس، ولقي منه احتفاء وإنعاماً، وسرعان ما أنكفأت عقارب السعاية به تدب حول السلطان، فلم ينشب أن استأذنه في الانصراف، فأجاب طلبه بعد تمنع، وارتحل حتى عرَّج على "بسكرة"؛ لصحبة كانت بينه وبين أميرها أحمد بن يوسف بن مزني.
* انصرافه إلى العلم:
وما كان يمتحن به ويقاسيه من مشاكسة المنافسين له في مقاعد الرياسة، ونصبهم حبائل السعاية به، ثم تنكر السلطان له بعد الرعاية والإقبال، صرفَ قلبه عن التعلق بأسباب السياسة، وجعله يفرغ همته في تحقيق العلوم ودراستها.
ومن أجل هذا قعد عن السفر إلى أبي حمو صاحب "تلمسان" حين استدعاه ليقلده الحجابة وكتابة العلامة، ووجه إليه أخاه يحيى ليقوم بعمل هذه الوظيفة مكانه.
* المراسلة بينه وبين الوزير ابن الخطيب:
بعث إليه الوزير ابن الخطيب من "غرناطة" برسائل يشكو فيها مضض النوى، ويتلهف على عهد اللقاء. وقلوب الأصدقاء قلَّما تتصدع بحزازات الوشاية، وتعود إلى عنفوان ودها الصميم، ولكن الرقة الدافقة على ذوق ابن الخطيب، والأدب المنسجم في مزاج خلقه الرصين، ذهبا بأثر ما سعى به إليه قوم لا يفقهون، ونهضا به إلى تأكيد صداقة انتظمت بينه وبين رجل يدانيه علماً وأدباً، ويضاهيه في طرق التفكير، والعمل لرقي نظام الاجتماع.
وإذا كانت الرسائل مثالاً لمنهج الرجلين في المحاورة ساعات اللقاء، فإن هذه المراسلة تنبئك أن المجالس التي كانت تعقد بين هذين الوزيرين