التهمة، وانقلبت به إلى السلطان، فلقيه حوالي تلمسان، فقضى ليلته في اعتقال، وفي الغد أطلق سبيله، فانصرف إلى رباط الشيخ أبي مدين، ونزل بجواره على قصد التفرغ للعلم، ونثرِ درره الشائقة بين يدي طلابه.
* استدعاؤه إلى فاس:
ولم يزل متمتعاً بحياة علمية خالصة، حتى استدعاه السلطان عبد العزيز، وأوعز إليه في الخروج إلى بلاد "رياح"؛ ليجمعهم على طاعته ومناصرته، فانبعث يعمل في هذا السبيل بكلمة نافذة، ودعاية ناجحة، إلى أن قضى المأرب، وبلغ الغاية المنشودة، وكان يسعى إلى هذه المهمة السياسية وهو مقيم ببسكره في جوار أميرها أحمد بن يوسف بن مزني الذي هو صاحب زمام رياح، وما راع ابن خلدون إلا أن أخذ حساده ينفثون سموم الوشاية في أذن أحمد بن مزني، فهاجوا غيرته، وأوغروا صدره حتى تنفس بالشكوى منه إلى صاحب شورى السلطان، وترمار بن عريف، ورفع صاحب الشورى هذه الشكوى إلى السلطان، فما كان من نظره إلا أن استدعى ابن خلدون إلى حاضرة "فاس"، فخرج بأهله وولده.
ولقيه في الطريق نعي السلطان، وتولية ابنه الصبي أبي بكر السعيد في كفالة الوزير أبي بكر بن غازي، فدخل "فاس"، وكان له مع الوزير سابق صحبة، فأدرَّ عليه من معصرات بره وكرامته فوق ما يحتسب، وظل عاطفاً على التدريس، صارفاً همته إلى الوجهة العلمية إلى أن ظهر السلطان أحمد ابن أبي سالم على الوزير أبي بكر بن غازي، واجتذب مقاليد الأمر من يده، ولم يستقر به الحال حتى قام وزيره محمد بن عثمان يدخل عليه الريبة من جانب ابن خلدون، ويغريه بالقبض عليه.