للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فانقلب عطف السلطان عليه جفاء، وأنسه به وحشة، وأجلاه إلى "العدوة" من بلاد المغرب الأقصى.

وموضع العبرة في هذه الواقعة: أنك تقارن بين عودتيه من الأندلس، فتجده في المرّة الأولى قفل من "غرناطة" والسلطان يبسط له يد المجاملة، ويودعه بقلب يأسف لفراقه، ثم هو متوجه نحو "بجاية"، والدولة متأهبة لاستقباله بأجمل ما يتصور من مظاهر الاحتفاء. وتراه في هذه المرة انصرف عنها والسلطان يكره إقامته، وتطوى عنه بساط أنسه، خرج وهو لا يدري أين يلقي عصا التسيار: هذه دولة الأندلس تنفيه من أرضها، وتلك دولة المغرب الأقصى تلحظه بعين الحنق، وترمي من ورائه بسهام الكيد والأذى، وهذا أبو حمو صاحب "تلمسان" لم يزل ينقم عليه مشايعته للسلطان عبد العزيز، وسعيه في صرف وجوه العرب عنه يوم كان طريداً في الصحراء. بيد أن أبا حمو كان على روية لا يفوتها أن الأخذ في معاملة رجل خطير كابن خلدون بالرفق والأناة إنما توضع في حساب الحسنات التي ينوه بها التاريخ، ويرتقي بها شأن دولته، فسمح له بدخول "تلمسان"، فجاءها وقد ذاق من صروف السياسة عذاب الهون، فما كان إلا أن تجرد للقراءة، ولم يشغل وقته بسوى المذاكرة في العلم ودراسته.

وقد يكون انحراف الدولة عن النابغة، أو اضطهادها له، أشد داعية


= على حاضرة فاس حسبما قصصناه في المحاضرة، وكان استيلاؤه عليها بمساعدة وموالاة من السلطان ابن الأحمر، قام سليمان بن داود يغري السلطان بالقبض عليه، فأودعوه السجن، وائتمروا على قتله بدعوى أنه وقعت له كلمات في كتاب "المحبة" تنطق بزندقته. ثم أوعز سليمان بن داود إلى بعض الأوغاد بقتله، فهجموا عليه ليلاً، وقتلوه خنقاً في محبسه.