إلى بذله كل ما يملك من الجد والألمعية في توسيع دائرة معارفه، أو الحذق في صناعة التأليف أو الاستنباط؛ فإن الكدر الذي قد يثيره تغابيها عن مكانه، أو بخسها من قيمته إنما يكشفه ارتياح النفس وتمتعها باستطلاع حقائق العلوم التي هي أصفى لذة، وأبقى سؤدداً من نيل الحظوة، والقرب من مجالس الأمراء.
* تصنيف ابن خلدون تاريخه ومقدمته:
ما برح ابن خلدون منقطعاً لبث العلم، حتى بدا لأبي حمو أن يبعثه سفيراً إلى "الذواودة"؛ ليراوضهم إلى طاعته، ويجمعهم على ولائه، فلبى طلبه في الظاهر، وخرج وهو يسر في نفسه أن لا يعمل لهذا السبيل بعلَّة أنه أصبح يعزُّ عليه بذلُ شيء من أوقاته في غير الوجهة العلمية، ولعله سئم التدخل في السياسة التي قد تلتوي به مع أهواء الأمراء، وتحمله على أن يسعى في استنجاد القبيلة لمن كان يغريها عليه.
ولما وصل إلى البطحاء، ولى وجهه عن ناحية الذواودة جانباً، وثنى عنانه إلى أولاد عريف، فأنزلوه بقلعة أولاد سلامة، وأقام بينهم أربع سنين في جو هادئ، وبيئة لا تجيش فيها مراجل الحسد، ولا تنفث فيها الوشاية سماً ناقعاً. وفي هذه السنين -التي كانت مهبط السكينة وصفاء الفكر وارتياح الضمير- شرع في تأليف "تاريخه" الفائق، ولذلك الحين أتم في "مقدمته" على نسجها الحكيم، وتحقيقها البديع.
* عودته إلى وطنه:
سلّ يده من كل شاغل، وألقم فكره ثدي الاستنتاح والتفقه في المقاصد العلمية والشؤون العمرانية، حتى بلغ في مجالها شأوا لا يشق غباره. فتاقت