نفسه إلى زيادة التوغل في أسرار العلم، والاستفادة من كتب لا تنالها الأيدي إلا في الحواضر، فراسل صاحب تونس أبا العباس بالعودة إلى تونس التي هي مسقط رأسه، ومسحب ذيل شبابه، ومجرى جياد أنسه، فما تريث أن طلع عليه جواب السلطان يأذن له بالقدوم، ويحثُّه عليه، فانبرى يطوي الفيافي حتى أوى إلى ظل عنايته، وأنزله منزلة المغتبط بسابقات عزه ومظاهر كرامته.
ظن ابن خلدون -مذ حطَّ رحله بين قومه، وسحب رداء العز في وطنه- أن الزمان صافحه بيد المصافاة، وأن الحوادث أصبحت تهاب أن تغشى ساحته، فإذا تقريب السلطان له، واستخلاصه جليساً يضرم في قلوب فريق من الناس نار الغيرة والحسد، فلم يتمالكوا أن باتوا ينصبون له حبائل الوشاية، يهمسون في أذن السلطان بما يوغر صدره عليه، ومما تعلقوا به في أسباب الكيد به: تخليه عن صوغ الشعر في مديح السلطان، وزعموا لديه أنه لم يعن بمديحه كما عني بمديح سلاطين المغرب والأندلس؛ استخفافاً بمقامه، وكفراناً لنعمته.
وقد ضلَّ هؤلاء عن سواء السبيل: فإن العالم الأديب قد يهفو به نزق الشباب، أو ينساق بحكم الضرورة إلى مديح بعض الرؤساء، حتى إذا بلغ في العلم أشده، وخلع عليه التقدم في السن حلة السكينة والوقار، عافت نفسه ذلك الفن المزري من الشعر، وجمدت قريحته دون أن تنطف فيه بقطرة. فيجب على صاحب الدولة الرشيدة أن يكون على همة أسمى من أن تتشوف إلى سفاسف الأمور، وأطهر من أن ترضى للذين أوتوا الحكمة أن يلقوا بأنفسهم في حضيض الملق والاستعطاف، بل الأمجد لذكره، والأدعى لحمده: أن يكون إكرام العلماء في نظره حقاً تقتضيه العلم بنفسها.