القضاة، فتحرى بهذه الخطة صراطاً سوياً، ولم يدخر وسعاً في العمل على إصلاحها، وتجديد ما درس من معالمها، ولم تألف العامة الصرامة في إقامة الحق على وجهه الصريح، ولم يعتد ذوو الجاه والشوكة من رجال الدولة إغلاق باب الشفاعة والتوسل في وجوههم، فتعاقد الفريقان على التظلم منه، والتهويش عليه لدى السلطان؛ بدعوى أنه غير خبير بالتقاليد المعبر عنها بالمصطلح، وانضم إلى هذه المحنة نكبته في أهله وولده إذ أبحروا من تونس ليلتحقوا به، فغشيتهم ريح عاصف، وهلكوا في البحر غرقاً.
وقف السلطان تجاه تلك الشكوى موقف الحكمة، فجمع بين الحزم في السياسة، وكرم الهمة، ففصله عن الخطة؛ تهدئة لثائرة الجمهور، واستمر على مواصلته بالرعاية والإنعام؛ وفاء بحق العلم، واقتناصاً لمفاخر يزدهي بها وجه تاريخه المجيد.
* ابن خلدون والوزير ابن زمرك:
وبعد أن قضى ثلاث سنين عاكفاً على التدريس والتحرير، خرج لقضاء فريضة الحج سنة ٧٨٩، وقفل راجعاً إلى القاهرة، واتصل حين بلغ الينبع بكتاب يحتوي على شعر ونثر راسله به أبو عبد الله بن زمرك وزير السلطان ابن الأحمر صاحب "غرناطة"، ولجودة نظمه، وصفاء ديباجته بحيث يسوغ لنقاد الأدب أن يضعوه بالمكان الأسمى من الشعر، ويقضوا له بالسبق في حلبة البلاغة، رأينا من اللائق بهذه المحاضرة أن نحلي جيدها بطوق فرائده، ومما يقول في أوائل هذه القصيدة:
ويا زاجري الأظعان وهي ضوامرٌ ... دعوها ترد هيماً عطاشاً على نجدِ
ولا تنشقوا الأنفاس منها مع الصَّبا ... فإن زفير الشوق من مثلها بعدي