وبعد عودته إلى القاهرة تقلد خطة القضاء مرة ثانية، ثم عزل عنها، وقد تولاها مراراً، وبلغت ولايته لها، ثم تخليه عنها منذ هبط مصر إلى أن توفي نحو ست مرات.
* ابن خلدون والطاغية تيمورلنك:
وكان الملك الناصر فرج يسلك في رعايته والإقبال عليه بوجه البر والإنعام مسلك أبيه الملك الظاهر، واستصحبه في خروجه إلى الشام أيام الفتنة التترية، فكان ابن خلدون ممن وقعوا في الأسر، ثم غشي مجلس تيمورلنك في طائفة من الأعيان والقضاة، ومكنه دهاؤه وبراعته في فن السياسة من افتتاح باب المخاطبة، والدخول معه في حديث أصاب مواقع هواه، وأخذ بمجامع لبه، حتى أحرز لديه مكانة الرعاية والإكرام، وحمله الإعجاب بسمو مداركه، وكياسة منطقه على اصطفائه لنفسه، والانقلاب به إلى مقر ملكه؛ ليكون شهاباً ثاقباً في سماء دولته، ودرة وضاءة في سلك علمائه.
ولم تطب نفس ابن خلدون لأن يحط في أهواء هذا الطاغية، ويتطوح في مجاراته أن يدخل في شيعته، ويعمل تحت لوائه، وتلطف في مخادعته باستئذانه في العودة إلى مصر؛ ليجمع أمره، ويضم إليه أهله وكتبه، فنفذت الخدعة، وبلغ أمنيته، فعاد إلى القاهرة، ومدَّ بها طنب الإقامة إلى أن أدركه أجله وهو في منصب القضاء لأربع بقين من رمضان سنة ٨٠٨، ودفن في مقابر الصوفية خارج باب النصر.
وقبره غير معروف، شأن من يوافيه الحمام في دار غربة، أو يقبره قوم كسدت لديهم بضاعته الغالية، وكلَّت أبصارهم دون الوصول إلى مراميه السامية.