عبد الحليم في انتظارنا، فذهب بنا إلى داره، وارتقى بنا إلى طبقتها العليا، وتنفست مدة المسامرة، فتواصلت حلقاتها نحو ست ساعات.
جرتنا المناسبة إلى الخوض في شؤون المدرسين، فقلنا: ليس المدرس حقيقة من يلقى المسائل على حسب ما تحويه الأوراق جيدها على رديها من غير أن يعرضها على محك النقد، ويزنها بمعيار النظر؛ فإن من المسائل ما لم تحط التآليف بتحقيقاتها واستخراج خباياها، فقال لي الشيخ: مثال ذلك من فن البيان: الاستخدام؛ فإن البيانيين يعدونه من المحسنات المعنوية، ولا يبينون كيف يعود حسنه إلى المعنى، ثم استرسل في بيان رجوعه إلى المعنى بكلام يشهد لصاحبه بسلامة الذوق، والولوع بالكشف عن أسرار المسائل، دون الاكتفاء بتصوراتها المجردة، ثم استطردنا أن الاستخدام لا يختص بالضمير كما نص عليه الشهاب الخفاجي في "حواشي البيضاوي"، بل يكون بغيره؛ كالاستثناء؛ نحو: أبداً حديثي ليس بالمنسوخ إلا في الدفاتر، والتمييز نحو:
أخثِ الغزالة إشراقاً وملتفتاً
والعطف، وعليه خرج قوله تعالى:{وَلَا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ}[النساء: ٤]. فالمراد من الصلاة: معناها الشرعي، ووقع عطف {وَلَا جُنُبًا} باعتبار معناها المجازي، وهو المسجد. وأطلعني على صدر مقالة له فصيحة المباني، شريفة الموضوع، مفرغة في قالب الإنشاء العصري، ووعدنا بإرسالها عند استكمالها.
وكان هذا الفاضل زار الحاضرة قديماً، وأقام بها نحو ثمانية أيام أخذ فيها "المقولات العشر" تدريساً عن الشيخ محمد بن عيسى الجزائري