ثم قررنا تفاوت العلوم في الشرف، واستطردنا أن الإقبال على العلم أفضل من الاشتغال بالعبادة لوجهين:
أحدهما: أن مصلحة العبادة خاصة، ومصلحة التعليم عامة، وما له مصلحة عامة أشرفُ مما مصلحته خاصة.
ثانيهما: أن في التعليم درء مفسدة، وفي العبادة جلب مصلحة، ودر المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولا سيما ما يدرأ الخلل في الدين، قال ابن جماعة في "كشف المعاني" عند قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس: ١]: المستعاذ به في هذه ثلاث صفات، والمستعاذ منه شيء واحد، وهو الوسوسة، والمستعاذ به في السورة قبلها صفة واحدة، والمستعاذ منه أربعة أشياء؛ لأن المطلوب في سورة الناس: سلامة الدين من الوسوسة القادحة فيه، والمطلوب في سورة الفلق: سلامة النفس والبدن والمال، وسلامة الدين أعظم وأهم، ومضرته أعظم من مضرة الدنيا، فموقع الدين من النفوس شديد، ولهذا كان تأثيرها للاستخفاف بشأنه، أو تحريف بعض حقائقه فوق كل تأثير، وانظروا إلى فرعون لما أراد صرف وجوه القوم عن اتباع موسى - عليه السلام - كيف قدّم لهم التخوف منه على تبديل دينهم، فقال:{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ}[غافر: ٢٦].
هذا في دين يفتضح صاحبه لأول كلمة ترمى لإبطاله، فما بالكم بدين كشف عن صفاء فطرته كتاب حكيم، وخضع لسطوته كل فكر مستقيم.
ثم أوردنا -بعد تقرير ما أمرت به الآية من تعلم أحكام الدين- قول العضد في خطبة "المواقف" ناقلاً عن بعض الأئمة: إن المراد من الاختلاف في حديث: "اختلاف أمتي رحمة": اختلاف هممهم في العلوم، فهمّة واحد