أتينا هنا على أن المنذر يتعين عليه أن يتحرى في إنذاره؛ بحيث لا يستند فيه إلا إلى علم صحيح من آية، أو حديث ثابت، أو نص من يقتدى به من الأئمة، وخرجنا منه إلى جريمة الحكم بغير ما أنزل الله، وقررنا ما نعهده للرازي في آية:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ}[المائدة: ٤٤] وفيما نقلناه من الأجوبة عن آية: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة: ٤٤]: أن المشار إليهم بالكفر هنا من حكموا بغير ما أنزل الله معتقدين أن ما قضوا به أوفق بالسداد، وأحفظ للمصالح.
وأدرجنا هنا دقيقة للشيخ ابن عرفة، وهي: أن أسلوب الآية أبلغ من أن لو قيل: "ومن حكم بغير ما أنزل الله"؛ فإن هذه العبارة لا تتناول من تقدم إليه الخصمان بقضية، فأهملها، وهو يستطيع فصلها؛ بخلاف الآية؛ فإنها تتناول من حكم في القضية بالباطل، ومن أبي الحكم فيها بما أنزل الله، وسكت، وهو منتصب في مقام الفصل بين الناس.
انتقلنا إلى أن للإنذار بالقرآن تأثيراً بالغاً على النفوس؛ بحيث لا يقوم كلام البشر مقامه، وإن ارتقى من البلاغة ذروة سامية. واستطردنا مقالة نفيسة لصاحب "المنهاج"، وهي: أن الله تعالى خصّ القرآن بأنه دعوة وحجة، ولم يكن مثل هذا لنبي قط، إنما كان لكل واحد منهم دعوة، ثم يكون له حجة غيرها، وقد جمعها الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في القرآن، فهو دعوة بمعانيه، حجة بألفاظه، وقلنا عقب هذا: إن القرآن حجة بمعانيه أيضاً؛ فإن استقامة سائر ما احتوى عليه من القضايا، وانطباقها بجملتها وتفاصيلها على مناهج الحكمة، ورسوم السياسة العادلة، يدل دلالة مثل فلق الصبح على أنه وحي سماوي، وأنه بريء من أن تبتدعه أفكار البشر، وبهذا يمكن للعجم الذين لا يحسنون