ومِن قصد الشارع إلى التعاون على وجه عام: أنه نظر إلى الأعمال المنطوية على مصالح، فكان منها ما تحصل مصلحته لكل شخص يقوم به، وتوجد هذه المصلحة كلما قام به قائم وهو مستوفي الشروط والأسباب والأركان، فجعل الخطاب فيه موجَّهاً إلى كل من بلغ سن التكليف؛ كالصلاة والصيام والحج والزكاة، وهذا ما يسميه الفقهاء: بالواجب على الأعيان، ومنها ما تحصل مصلحته بفعل شخص أو أشخاص، ولو قام غيرهم من بعدهم ليفعله، وجد المصلحة قد تحققت، فجعل الخطاب فيه موجَّهاً إلى الأمة على أن تقوم به طائفة منها؛ كتجهيز الموتى، وإنشاء ما يكفي حاجة البلاد من المدارس، وهذا ما يسمَّى في عرف الفقهاء: بفرض الكفاية.
والحقيقة: أن الطلب في فرض الكفاية يتوجه إلى من فيهم الكفاية للقيام بالعمل المطلوب، وإذا قام به بعضهم، سقط عن سائرهم، فولاية القضاء -مثلاً- يُتوجه فيها إلى من درسوا أحكام الشريعة، وكان لهم مقدرة على تطبيق الأصول على الوقائع. وإِنقاذُ الغرقى يتوجه الطلب فيها إلى من يستطيعون الإِغاثة.
ونصرة المظلوم يتوجه الطلب فيها إلى من كان قادراً على أن ينصره بإنفراده، أو بالانضمام إلى غيره. وإِنما جُعل الخطاب في فرض الكفاية موجهاً إلى الأمة؛ لأنه يجب على من لم يكن فيهم أهلية للعمل المطلوب أن يهيئوا وسائله لمن فيهم أهلية، أو يجبروهم على القيام به إذا أهملوا أو تباطؤوا. فدفعُ الشُّبه وتقويم الزيغ واجب على العارفين بأصول الدين، فإذا دخلت الضلالة في قرية لا يوجد فيها من فيهم الكفاية لتقويم الزائغين، وجب على من فيهم