التعاظم جانباً، وجلسوا لذوي الحاجات على بساط المساواة، وكذلك قلوب الرعية إنما تنجذب إلى رجال الدولة، وتلتف حولهم بعاطفة خالصة، على قدر ما يبعدون عن مظاهر الأبهة، ويخففون من شعار العظمة.
أرسل سعد بن أبي وقاص المغيرة بن شعبة إلى رستم القائد الفارسي، فأقبل إليه حتى جلس معه على سريره، فوثب عليه أتباع رستم، وأنزلوه، فقال المغيرة بصوت جهير:"إنا -معشر العرب- لا يستعبد بعضنا بعضاً، فظننت أنكم تتواسون كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض. اليوم علمتُ أنكم مغلوبون، وإن مُلْكاً لا يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول".
أراد المغيرة أن يبثّ في الجنود الفارسية النفرة من قائدها، حتى ترتخي عزائمهم عن نجدته، فما كان إلا أن أيقظهم لِما خص به ذلك القائد نفسه من الميزة والاعتلاء بغير حق، وأومأ إلى أن الإسلام قرر قاعدة المساواة على وجهها الصحيح، فلا فضل لرئيس على أدنى السوقة إلا بتقوى الله. وقد نجح دهاؤه ونفذت فيهم مقالته، حتى صاحت طائفة منهم قائلة:"صدق -والله- العربي فيما قال".
ومن مثل هذه القصة، نفقه أن سقوط تلك الممالك تحت رايتهم لم يكن نتيجة البسالة والسيف وحدهما، بل كان الأثر الأعظم للدهاء في السياسة.
أحيا ذلك الشعور: أن رأوا باب الحرية مفتوحاً على مصراعيه، ولم يجدوا دون مناقشة أولي الأمر حاجباً، فكان اطمئنانهم في سيرهم، ووثوقهم بسلامة مستقبلهم، مما يذكرهم بالسكينة، ويعظهم بأن يكونوا كالكنانة بين يدي أميرهم العادل، يرمي بعيدانها الصلبة في وجه من يشاء.