ومن ألقى نظرة في التاريخ الإسلامي، عرف أن الرجال الذين أسسوا ملكاً لا سلف لهم به؛ كعبد الرحمن الداخل، أو جددوا نظامه بعد أن تقطعت أوصاله، كعبد الرحمن الناصر، إنما استقام الأمر بما كانوا ينحرونه في سياستهم من العدل في القضية، وتلقي الدعوى إلى الإصلاح بأذن صاغية وصدر رحب.
ماذا يخيل إليك من حال الأمة لعهد المنصور بن أبي عامر حين تقرأ في تاريخ دولته: أن أحد العامة رفع إليه الشكوى بأحد رجال حاشيته، فالتفت إليه، وكان ممن انتظم بهم عقد مجلسه، وقال له: انزل صاغراً، وساو خصمك في مقامه، حتى يرفعك الحق أو يضعك، ثم قال لصاحب شرطته الخاص به: خذ بيد هذا الظالم، وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره.
وإن الذي يتحلى بمزية إنصاف الضعيف من القوي، وتتمتع رعيته بمثل هذا العدل، لجدير بأن يبلغ من العز الشامخ والتأييد الراسخ؛ حيث جذب عنان الملك من يد هشام بن الحكم، واستقل بالأمر، وغزا ستاً وخمسين غزوة، دون أن تنتكس له راية، أو يتخاذل له جيش.
ذاق المسلمون طعم سياسةٍ أعدلَ من القسطاس المستقيم، وعرفوا أن الدولة التي لا تقوم على قواعد المساواة والشورى، وحرية التصريح بالرأي، ليست هي الدولة التي أذنت لهم شريعتهم بأن يُلقوا إليها أمرهم عن طاعة وإخلاص.
والحركات التي قلبت الدول رأساً على عقب؛ كنهضة أبي المسلم الخراساني في الشرق، والمهدي بن تومرت في الغرب، إنما نجحت، وكان