خرجت الفلسفة على علماء الإسلام، وقد اعتادت أنظارهم التقلب في مسالك الاجتهاد، وتمحيص ما يقع إليها من الآراء، فبسطوا إليها أيديهم، وفتحوا لها صدورهم، ولكنهم لم يرفعوها إلى المقام الذي يمنعهم من مناقشتها، وتقويمِ المعوج من مقالاتها؛ كما صنع "الغزالي"، و"الرازي"، وكثير من علماء الكلام.
ماذا يكون مبلغ أولئك الأعلام من الحكمة، لو لم يزنوا قضايا الفلسفة بميزان العقل، ويميزوا بين ما ينبني على علم أصيل، وما يأخذ زخرف الحق من الشبه الكاذبة، فتعلقوا فيمن تعلق بمذهب "دارون" في أصل الأنواع، أو "سبينوزا" في وحدة الوجود، وقدموا إلى بعض النصوص التي يرونها مخالفة لهاتين النظريتين، فتأولوها على غير ما يفهم من مساقها، حتى إذا انكشف السراب الذي خادع "دارون"، و"سبينوزا" وانقلبت دعاويهما إلى أساطير ملفقة، عادوا إلى ما أبرموه في تأويل تلك النصوص، فنقضوه بأيديهم، وكذلك يفعل من يستهويه كل ناعق في واد، ويفتنه قول يخرج في صبغة جديدة.
كم يوماً قال أدعياء الفلسفة -وهم يتلقفون بعض آرائها على غير بينة-: "قد ثبت كذا فناً". حتى إذا كنت الألمعي الذي لا يضع بجانب معلوماته قضية غير مقرونة بحجة، وناقشتهم الحساب في طريق ثبوتها، لم يكن منهم سوى أن يقولوا: هذا رأي الفيلسوف فلان، وقد أصبح من النظريات المعقود عليها بالخناصر. ثم لا تلبث بعيداً حتى يحدثوك بأن فيلسوفاً آخر قد كشف الغطاء عن وجه فسادها، ورشقها بنظرة المتهكم بها، فوقعت إلى حضيض الآراء