وقد كان فقهاء الأندلس يومئذ يقتصرون من الفقه على تخريج مسائل المدونة شرحاً واستنباطاً، ويضمون إلى ذلك ما ينزل بهم من الأقضية المحدثة تحت اسم "العمل"، فجاءت عدة أعمال، "عمل قرطبة""عمل طيطلة" ... إلخ، إلا أن ذلك كله كان في فصاحة عبارة وحسن تبويب كما تشهد بذلك كتبهم التي ترى لنا اليوم، ولم يكن فيها من النظارين يومئذ إلا "أبا محمد ابن حزم" الإِمام الشهير، لكنه كان منبوذاً بينهم بمتابعته مذهب "داوود الظاهري"، على أنه كان ينال من الفقهاء وطريقتهم بالشتم والتحقير ما أضاق نفوسهم منه، ولم يجدوا من سعة العلم والعرفان بالسنّة والعلوم الكلامية من يقدر على مناظرته أو إقناعه في الأقل، فكانوا متشوقين لمن يقوم بذلك، فلما قدم أبو الوليد، قام بمناظرة ابن حزم وبيَّن له مسائل كان يخلط فيها، حتى اضطره إلى مفارقة البلد الذي هو فيه، ولكنه مع ذلك لم يكن يجري بينهما شيء زائد على المناظرة من نحو سباب الجهال وتنابز الطغام، حتى لقد كان كل منهما يعترف لصاحبه بقوة العلم والنظر، قال عياض:"بلغني أن أبا محمد ابن حزم على بعد ما بينهما كان يقول: لم يكن للمالكية بعد عبد الوهاب مثل أبي الوليد".
قال الباجي يوماً مفاخراً لابن حزم:"أنا أعظم منك همة في طلب العلم، لأنك طلبتَه وأنت تعان عليه، تسهر بمشكاة الذهب "يشير إلى سعة ثروة ابن حزم وآبائه"، وطلبتُه وأنا أسهر بقنديل بائن السوق "جمع ساق"، فقال له ابن حزم: "هذا الكلام عليك لا لك, لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته،