فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة"، فأفحمه.
وأدخل للأندلس طريقة النظر في الفقه، فكان ينزع منازع الاجتهاد على طريق النظّار من البغداديين وحذّاق أئمة القرويين والقيام بالمعنى والتأويل، قال عياض: "وكانت كتبه مشهورة جليلة، ولكن أبلغ ما كان فيها في الفقه وإتقانه". قال القاضي أبو بكر بن العربي: "ولولا أن طائفة نفرت إلى ديار العلم، وجاءت منه بلباب كالباجي والأصيلي فرشت على هذه القلوب الميتة، وعطرت أنفاس الأمة الزفرة، لكان الدين قد ذهب".
كانت الفلسفة اليونانية يومئذ قد مدَّت أطنابها على الأندلس، وروَّجت كثيراً من العقائد المقارنة لها في كتب أصحابها، في قلوب كثير من ضعفاء الذين مازجوها حتى أفضت ببعضهم إلى الإلحاد في الدين، ولم يجدوا مع ذلك كله من يقوم بتبيان الحق ويفسِّر حقائق الإِسلام وآدابه للذين استهوتهم فلسفة الأخلاق اليونانية والفارسية على ما فيهما من تبديل وقِدَمٍ، ومن خلط العقائد بالفلسفة، فلما جاء أبو الوليد ابتدأ يبين لخاصة المتفلسفين أن الفلسفة شيء والعقيدة شيء، وأن لهم في كتابهم من فضائل الأخلاق ما لو شرحوه ودوَّنوه لفاق غيره، ومن حديثه في ذلك أنه كان يوماً في مُناخ "أحمد بن هود" الملقب "بالمقتدر ملك سرقسطة" ينتظر إذنه، فجالسه ابنه "يوسف" الملقب "بالمؤتمن" الذي ورث بعده ملك سرقسطة سنة أربع وسبعين وأربعمائة، وكان قائماً على الفلسفة والعلوم الرياضية وله فيها تآليف مثل "الاستهلال والمناظر"، وجاذبه ذيل الحديث، فقال أبو الوليد للمؤتمن: "هل قرأت زجر النَّفس لمحمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -؟ "، يُعرِّض له "بكتاب أفلاطون" في الأخلاق الذي يُسمّى "زجر النَّفس"، وعنى ما تضمنت الشريعة في هداية النُّفوس.