بهاته النهضة وما تبعتها، ممن خطَّ على تسطير أبي الوليد الباجي مثل "ابن العربي"، و"ابن رشد الحفيد"، و"ابن السيد"، كملت النهضة العلمية بالأندلس وجمعت طرق العلم والتعليم، ونخلت العلوم المختلطة، دام ذلك الأمر إلى أن خبت نارها بِبرْكة التفرق والتنازع.
نال أبو الوليد وجاهة عند الملوك والرؤساء ما بين "سرقسطة وبلنسية ومرسية ودانية"، فاغتنم وجاهته هذه فرصة، فسعى بين ملوك الطوائف يؤلفهم على وحدة الإِسلام، ويروم جمع كلمتهم مع جنود المغرب المرابطين، ليحفظوا الأندلس من السقوط المتوقع، وهم يجلّونه في الظاهر ويستثقلون نزعته في الباطن، ولذلك لم يفلح له سهم فيما أراد حتى مات "بالمرية" في هذا الغرض.
* ماذا لقي أبو الوليد من جزاء على حسن صنيعه؟
كان أن لم تتخلف سنَّة الزمان عن اطرادها، حتى لحقت الباجي على سعة علمه وشهادة الأمة له ونصحه لها وإيقاده بصائرها ومكانه من الوقار، فإنه ما لبث شجى في حلوق حاسديه لم يجدوا فيه مغمزاً أوهنة ينسبونها إليه، ليسقطوا من جنبه في نظر الأمة، ويمحوا من اسمه ما اشتهر، ولم يرقبوا فيه حقاً، فتربصوا به الملجأ الأخير مخالفة المعتاد والإتيان بشيء جديد، ذلك الأمر الذي يسخط صغار العقول من العلماء، فيسعون به لدى العامة يستعينون بغضبها الأعمى على اضطهاد الرجال الكبار، فإن أبا الوليد لما كان بالمنزلة التي عرفتم، وكان علم الحديث كدأبه يتضاءل في الأمة بعد القرون الأولى، لا يجد حاملاً لا ينوء به حمله، فكان درس "حديث صلح الحديبية" من "صحيح البخاري" حين أبي المشركون أن يكتب كاتب رسم الصلح كلمة