الحكم ابنه ولي عهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء، ويقدمه أمام نشيد الشعراء، فأمر الحكم صنيعه الفقيه "محمد بن عبد البر الكسيباني" بالتأهب لذلك، واعداد خطبة بليغة يقدم بها بين يدي الخليفة، وكان يدّعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره، وحضر المجلس السلطاني فلما قام يحاول التكلم بما رأى، هاله وبهره هول المقام وأُبهة الخلافة، فلم يهتد إلى لفظه، بل غشي عليه وسقط إلى الأرض، فقيل "لأبي علي البغدادي إسماعيل بن القاسم القالي" صاحب "الأمالي والنوادر"، وهو حينئذ ضيف الخليفة الوافد عليه من العراق وأمير الكلام وبحر اللغة، قم فارقع هذا الوهي، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - "، هكذا ذكر "ابن حبّان" وغيره، وكلام "ابن خلدون" يقتضي أن القالي هو المأمور بالكلام أولاً والخطب سهل، ثم انقطع القول بالقالي، قال في "المطمح": "إن" أبا علي القالي انقطع، وبهت وما وصل إلا قطع، ووقف ساكتاً متفكراً لا ناسياً ولا متذكراً، فلما رأى ذلك منذر بن سعيد وكان ممن حضر في زمرة الفقهاء، قام بذاته بدرجة من مرقاته، فوصل افتتاح أبي علي لأول خطبته بكلام عجيب، ونادى في ذلك المقام كل مجيب، وقال: "أما بعد، فإن لكل حادثة مقاماً ولكل مقام مقال، وليس بعد الحق إلا الضلال، وإني قد قمت في مقام كريم بين يدي ملك عظيم، فأصغوا إليّ بأسماعكم، وأمنوا عليَّ بأفئدتكم، معاشر الملأ إن من الحق أن يقال للمحق صدقت وللمبطل كذبت"، ثم استرسل في خطبته، وقد ذكرها الفتح بتمامها، وختمها بإنشاد أبيات يقول في طالعها:
مقالٌ كحد السيف وسْطَ المحافلِ ... فَرَقْتَ به ما بين حقٍ وباطلِ
بقلب ذكي ترتمي جنباته ... كبارق رعدٍ عند رقشِ الأناصلِ