فما دحضتْ رجلي ولا زلَّ مقولي ... ولا طار عقلي يوم تلك البلابل
إلخ". ثم قال: "فخرج الناس يتحدثون عن حسن مقامه وثبات جنانه وبلاغة لسانه، وكان الناصر لدين الله أشدَّ تعجباً منه، وأقبل على ابنه الحكم ولم يكن يثبت معرفة عينه وقد سمع باسمه، فقال الحكم: هذا منذر بن سعيد البلوطي، فقال: والله لقد أحسن ما شاء، ولئن أبقاني الله تعالى لأرفعن من ذكره، فضعْ يدل يا حكم عليه واستخلصه وذكّرني بشأنه، فما للصنيعة مذهب عنه". وذكر "ابن سعيد" في "المغرِب" أن الناصر قال لابنه الحكم بعد أن سأله عنه: "لقد أحسن ما شاء، فلئن كان حَبَّر خطبته هذه وأعدها مخافة أن يدور ما دار فتيلاً في الوهي فإنه لبديع من قدرته واحتياطه، ولئن كان أتى بها على البديهة لوقته فإنه لأعجب وأغرب".
ثم قال: "وكان الخليفة الناصر كلفاً بعمارة الأرض، وإقامة معالمها، وتكثير مياهها، واستجلابها من أبعد بقاعها، وتخليد الآثار الدالة على قوة ملكه وعزّة سلطانه وعلو همته، فأمضى به الإغراق في ذلك إلى ابتناء مدينة "الزهراء" الشائع ذكره الذائع خُبره المنتشر في الأرض خبره، واستفرغ وسعه في تنجيدها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها، فانهمك في ذلك حتى عطَّل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه، فأراد القاضي منذر بن سعيد -رحمه الله- في أن يعظه ويُقرِّعه في التأنيب، ويقص منه بما يتناوله من الموعظة بفصل الخطابة والتذكير بالإنابة، فابتدأ أول خطبته بقوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: ١٢٨ - ١٢٩] إلخ الآية.
ووصل ذلك بكلام جزل وقول فصل، جاش به صدره وقذف به على