وكذلك اتصال آية حد الزنا بقوله تعالى:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}[النور: ٢] يمنع من حمل الأمر فيها على الإباحة؛ فقد عرف الشارع أن في الناس من تثور في نفسه العاطفة العمياء، ولا ينظر إلى المصالح بعقل سليم، فيرى أن في جلد الزاني إفراطاً في العقوبة، فحذر من الانقياد إلى تلك العاطفة الجاهلة بقوله تعالى:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}، ثم نبه على أن مقتضى الإيمان: تنفيذ أحكام الله في غير هوادة، فقال:{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}[النور: ٢].
وإذا نظرت بعد هذا إلى قوله تعالى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[النور: ٢]، رأيته كيف أمر بأن يُقام هذا الحد بمرأى طائفة من المؤمنين؛ ليكون في إعلانه وإذاعته الزجرُ البالغ، وفي الأمر بإعلان العقوبة قصداً للمبالغة في الزجر ما يؤكد أن الأمر بالجلد وارد على سبيل الوجوب؛ لأن الشارع يكره إشاعة ما يصدر عن الأشخاص من آثام، فما أمر بإعلان الحد الذي يستدعي إشاعة ما وقع من الفاحشة إلا حيث أصبح الحد أمراً حتماً، وكان إعلانه من متممات ما يقصد بالحد من الزجر.
وقد مشى كاتب المقال في غير طريق؛ إذ جعل الحدود من المباحات التي تخضع لتصرف ولي الأمر، فقد عرفت أنها ليست من المباحات، بل هي من الواجب المعين. والدليل على أنها من الواجب الذي لا يقوم غيره مقامه متى تحقق معنى الجناية: أن القرآن أفردها بالذكر، وقرن الأمر بأبلغ وجوه التوكيد، وطريقته المعروفة في التخيير أن يذكر الأنواع المخير بينها؛ كقوله تعالى في كفارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ