وأوفدته إلى ألمانيا في مهمة. وهناك اتصل ببعض الأحرار من التونسيين، وعانى معهم مشقة الغربة، والسعي لتحرير الوطن بكشف عيوب أعدائه. وإثر انتهاء الحرب العالمية الكبرى عاد إلى دمشق، وعاد للتدريس، وانتخب عضواً بالمجمع بها مع الأستاذ حسني عبد الوهاب سنة (١٣٣٨ هـ / ١٩١٩ م).
ولما دخلت فرنسا إلى سورية، وكانت من نصيبها عند قسمة تركة الرجل المريض المنهار المغلوب، هاجر صاحبنا إلى القاهرة سنة (١٣٣٩ هـ / ١٩٢٠ م)؛ لأن مصر لا علاقة لها بالدولة التي تستعمر بلاده تونس. وهو يقول في كلمة الإهداء لكتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم": "وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وأخذت البلاد العربية والتركية هيئة غير هيئتها، هبطت مصر".
في مصر، وفي القاهرة المعزية، اشتد ساعدُه المعرفي، وتعددت نشاطاته العلمية الثقافية، وتمتنت صلاته برجال العلم والأدب، وتفرغ لكل ذلك، وابتعد عن المغامرات السياسية وأهوالها ومصائبها.
ولما راوده الحنين إلى دمشق وساكنيها من إخوته، قال:
يقولُ: تقيم في مِصْرٍ وحيداً ... وفَقْدُ الأُنْسِ إحدى الموتتَيْنِ
ألا تحدو المطيَّة نَحو أرضٍ ... تعيدُ إليكَ أنسَ الأسْرتَيْنِ
وعيشاً ناعماً يدعُ البقايا ... من الأعمارِ بِيضاً كاللُّجَيْنِ
فقلتُ له: أيحْلو لي إيابٌ ... وتلك الأرضُ طافحةٌ بغَيْنِ
وهكذا حكم على نفسه بالابتعاد عن كل أرض تحكمها فرنسا، ولو كانت مسقط رأسه، ولو كانت عائلته بها.
وهكذا استقر نهائياً بمصر التي أثمر بها زرعه، وكثر عطاؤه، وعرف