في شارع (صفية زغلول) خلف بناء وزارة التربية والتعليم بالقاهرة، وفي جناح ضيق من بيت هادئ من بيوت هذا الشارع القصير، سعيت إلى الشيخ لألقاه، وأتحدث إليه، وأستمع منه، وما كنت أدري أن ركاب الموت ينتظره بعد قليل، وما كنت أتوقع أن يكون هذا اللقاءآخر لقاء لي مع ذلك الشيخ الوقور الهادئ ..
دخلت عليه وهو في حجرة مكتبه، وحوله أضابير أوراق، ومجموعة كتب، والصمت يعقد رباطه على المكان، فليس ثمة حركات ولا صوت، فالشيخ قد تزوج مرتين، ولكنه لم يرزق بأولاد .. وشاهدت على وجهه دلائل المرض، ومظاهر الشيخوخة المرهقة، فأردت أن أخرج به من عزلته ووعكته، فسألته: إنك مع علمك وفقهك واشتغالك بالقضايا الإسلامية تقول الشعر، فما هي الدوافع التي دفعتك إلى الشعر؟ ..
فأجاب: حينما تراجع ديواني "خواطر الحياة" يسهل عليك أن تتعرف إلى المحرضات التي حرضتني على النظم .. فقد نشأت في إقليم "الجريد" بتونس، وكان للشعر في هذا الإقليم مكانة ومنزلة، وكان الكثيرون من أقاربي يقولون الشعر، وكنت ألمس ما يلاقونه من تكريم وحفاوة عن طريق قولهم الشعر، فتعلقت بأسبابهم من أول النشأة، وحاولت النظم وأنا في الثانية عشرة من عمري، ولما التحقت بجامع الزيتونة، رأيت المنافسة على أشدها بين الطلاب والأساتذة في قرض الشعر.
ولكني أصارحك بأن حبي للعلم تغلب على ميلي للشعر، ولعل السبب