حتى قال بعضهم: ما زالت الأذواق تستهجن ماء الملام حتى عززها أبو الطيب بحلواء البنين.
وقد أراد أبو تمام أن يجعل استعارة ماء الملام كجناح الذل في الآية؛ إذ حكي أن بعض المستهجنين استعارة ماء الملام أرسل له قارورة، وقال له: أرسل لي شيئاً من ماء الملام.
فقال أبو تمام: أرسل لي ريشة من جناح الذل، أرسل إليك شيئاً من ماء الملام!.
والفرق بين ماء الملام وجناح الذل في حسن السبك وانتقاء وجه الاستعارة لا يخفى على ذوق سليم يدرك الحسن من المستهجن.
وبعض من يشهد له بالذوق السليم قد يغفل، فلا يبصر وجه الاستهجان في الاستعارة وغيرها، ويبصر به غيره، كما غفل أبو تمام عن استهجان ماء الملام، والمتنبي عن حلواء البنين، وإلا فمن يقول كأبي تمام:
من لم يُسَسْ ويطير في خيشومه ... وهج الخميس فلن يقود خميسا
ومن يقول كالمتنبي:
فلو أن المقام به علوٌّ ... تعالى الجيش وانحطّ القتامُ
شأنهما أن يتنبها لما في استعارة ماء الملام وحلواء البنين من الاستهجان.
واختلاف الشعراء والكتاب في أساليبهم يرجع إلى اختلافهم في الذوق.
وربما يبدو للذوق العاجل في نظر القرآن أن لو ذكر القرآن لفظاً آخر غير الذي ذكره، لكان أحكم نظاماً، وأوفى بلاغة؛ كما إذا نظر الذوق على عجل قوله تعالى حكاية عن عيسى - عليه السلام -: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة: ١١٨].