الكافي لاستنباط الأحكام، بل قصدهم: أن الأصل في الشرائع أن تكون بطريق الوحي، فيحمل الحكم الذي يصدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه ورد من هذا الطريق حتى يقوم الدليل على أنه صدر عن اجتهاد، وليس في التمسك بهذا الأصل حرمان له من مرتبة علمية من أسمى مراتب الفطنة البشرية والبصيرة الإنسانية، ولا تفضيل لمن أذن لهم في الاجتهاد عليه بهذه المرتبة.
والفطنة البشرية والبصيرة الإنسانية يظهران في نواح كثيرة من نواحي التفكير غير الاجتهاد في أخذ الأحكام الشرعية من طريق القياس، وقد ظهرت رجاحة عقله - عليه الصلاة والسلام - وذكاء لبه في أساليب دعوته، وسمو حكمته، وحسن تصرفه في سياسة الناس على اختلاف طبقاتهم، وتكاثر مذاهبهم، وتباين مشاربهم، وتفاوت مداركهم، وفي معرفة المنافقين في لحن أقوالهم:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}[محمد: ٣٠]. ولهجةُ خصوم الحق بين أهل الحق لا يكشف أسرارها، ويتنبه لمراميها إلا ذو بصيرة نافذة.
قال كاتب المقال: "كأني بهؤلاء يرون رسالة الرسول أمراً يتعارض مع بشريته، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع رسالته، وقبل رسالته، بشرًا اكتملت فيه جميع معاني البشرية الفاضلة، ولم يشأ الله أن يرسله حتى بلغ أربعين عاماً؛ لتنضج بشريته، وتكمل رجولته، فلا تطغى عليها الرسالة، ولا تسلبها خصائصها، وقد عني القرآن الكريم بأن يؤكد هذا المعنى في كثير من آياته:{سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}[الإسراء: ٩٣]، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ}[الكهف: ١١٠].
لم يقل المنكرون لاجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه لا يجتهد, لأن الاجتهاد شأن البشر، بل قالوا: إنه في غنى عنه بالوحي، فلو اقتنع هؤلاء بأن الحاجة داعية