وكانت متعته الوحيدة وسلوى نفسه هي أن يقرأ ويحادث، وقد حال عمي عينيه دون تحقيق هذه المتعة، فطيبت خاطره يومها بأن عماه مرده إلى "الماء الأبيض الذي غشي عليهما بسبب الشيخوخة ما يسمى طبيًا (كتاركت) وأن علاجه سهل بحول الله.
لقد كان الأمل وحب الحياة يملأ عينيه الطافيتين وودعته فكان الوداع الأخير!
مات "وإذا مات رجل مسن فكان مكتبة عامرة قد أحرقت" ظاهرة هذا الإنسان تكمن في ذاكرته التي تحوي تاريخا لا تسعه المجلدات، يحادثك عن أي فرد فيقدم لك معلومات لا تتخيلها، ويسرد لك أحداثًا من التاريخ القديم والحديث مرتبة ومبوبة فكأنه يقرأ في كتاب، فتعجب أي رأس هذا الذي يسع كل هذه المعلومات! وظاهرة هذا الرجل هي أيضًا في تواضعه وبساطته وأنسه بالآخرين، كان يكسب قوت يومه لقاء بيعه (فناجيل الشاي) فكان يحمل أكبر عدد منها يضع جزءا فوق رأسه ويملأ يديه من الجانبين بأكبر عدد ممكن من الفناجيل، وينادي بصوت منغم - فناجيل - فناجيل وتطربك هذه المناداة حين يموسقها بقرعه الفناجيل بعضها ببعض!
كنت صغيرًا، وكثيرا ما اعترضت طريقه طمعا بضاعة ذاكرته لا ببضاعة بده، وكان أقرب الزبائن إلى نفسه هو من يسأل عن بضاعته الخفية تلك!
ثم هو من أجل يُسوِّق بضاعته لا يمل التطواف ولا يسأم المشي، وكان ينطلق من مركز البلد ليتوجه شمالا أو جنوبا إلى مسافة ينتصف بها البلدة، ثم بدأت هذه المسافة تقل مع الأيام حتى أمست عبارة عن عدة خطوات يخطوها من منزله ليلقي بجسمه المتهالك على عتبة أقرب دكان إليه يجلس ساهما خاليا من بضاعته.
فالمستمعون الحريصون شغلتهم الحياة، وكؤوس الشاي امتلأت بها المجلات وتكدست بها بيوت الناس! كل أولئك الرفاق الذين سامرهم، والأصحاب الذين