والتوجيه والسلطان هو ذلك الأمل الضخم الأبدي في تلك الحياة الضخمة الأبدية التي ينال فيها المرء الخلود وكل ما يرجي من حاجات الجسم والنفس بدون أن يكدر ذلك شيء من المكدرات المعروفة التي تشوب لذائذ هذه الحياة الأولى القصيرة، والتي نملؤها بالخوف والاكتئاب فإذا ما استطاع إنسان أن يتمثل هذا الأمل وأن يغني ويتغني به، وأن يصف تصوره والتفكير فيه وفي لذة الظفر به والوصول إليه والحصول عليه، فلا محالة من أن يشغله ذلك عن كل شيء في هذا الوجود، وقد يطغى عليه وعلى وجوده حتى لا يدع منه لهذه الحياة شيئًا، وقد يدع شيئًا قليلًا أو كثيرًا، والاختلاف في هذا راجع إلى الاختلاف في قوة اجتذاب هذا الأمل الأخروي وضعفه.
وقد يغني عن هذه الحياة ويغيب عنها مع أنه فيها، لأنه ليس من أهلها، لا ينافس ولا يغاضب ولا يخاصم ولا يطالب ولا يحارب أو يسالم من أجل شي فيها، ويصير كذلك الرجل الورع الذي صرفه ورعه ودينه عن كل ما هنا حتى قال فيه معاوية بن أبي سفيان - وهو يضع خطوط الطريق لابنه يزيد:"أما فلان فقد أعجزه الورع، فدع له دينه يدع لك دنياك".
فإذا لاحظنا أن المتدينين - أفرادا وشعوبا - عجزوا عن إيجاد الحياة وعن التحليق - بالصناعة أو الزراعة أو التجارة أو العلوم المادية الإنسانية، أو عن شيء ما من وسائل الحياة وأسبابها، فلنعلم أن أحد أسباب هذا العجز هو هذا التصور لهذا الأمل العظيم والانصراف إليه بأكثر العقل وأكثر العمل وأعظم الاهتمام.
ومن المعلوم أن أوروبا يوم أن كانت مؤمنة بالكنيسة متدينة كانت في ذلك الهوان والضعف والعجز الذي نعرفه ونقرؤه، فلما أن مرقت من إيمانها وتنازلت عن ذلك الأمل الأخروي، وجعلت الصناعة والتجارة والحياة الكبيرة القوية هي آلهتها التي وحدتها وأبت الإشراك بها، صعدت بالحياة هذا الصعود الذي أعجز أبصارنا تصوره والنظر إليه، وقد قال أحد الفلاسفة الإنجليز المعاصرين المدرسين اليوم في