وانقلب السوق دخانًا ورمادًا وركامًا، ومضى أهل المدينة الليل كله ينقلون جرار الماء من الشط لإطفاء ذلك الحريق المخيف.
وما كان أبو الخيل ولا أهل السوق في تلك الليلة يشعرون أن هذا الحريق قد أثار قبيلتي حجام، وآل حميدي وهيجهما، وكان ضيدان بن فهد شيخ قبيلة حجام يترقب الفرص للانتقام من أعداء حجام في مدينة السوق لتصرفات ومشاكسات فردية أدت إلى نفرة العشائر، وأثارت الغضب في النفوس، فلما شوهدت النيران من بعيد، وارتفع سناها، وعلم ضيدان بن فهد بذلك استنفر قبيلته، وآل بو حميدي في تلك الليلة فدخلوا المدينة وسوقها يفور كُلُهُ من شدة الجمر، واللظى فاجتاحت قبيلة حجام، وآل بو حميدي معهم خانات المدينة ودكاكينها التي لم تصلها النار بعد فأخذوا ينهبون ويسلبون ويطاردون خصومهم بالرمي عليهم في أزقة المدينة ويصولون ويجولون كأنهم هم الذين أحرقوها، ثم حفرت عشيرة آل بو حميدي خندقًا محاذيًا لأم العباس، ورابطوا عليه لمنع الجيش التركي من الوصول إلى المدينة ولجأ قائمّقام السوق إلى منزل الشيخ علي حيدر، فاقترح عليه الشيخ علي حيدر أن يدفع ثلاثين ليرة عثمانية ذهبًا إلى ضيدان بن فهد شيخ حجام ليأمن سلامته في الوصول إلى الناصرية، وتكاثرت جموع قبائل المجرة في مدينة السوق، واختفى السكان في بيوتهم، وقبعوا فيها لا يبرحون، واتسعت الفوضى، وساد الشغب، ونصب ضيدان بن فهد نفسه (شيخًا) على هذه المدينة، ووظف مناديًا له بذلك، واحجمت العساكر التركية عن اقتحام المدينة وطرد العشائر منها، وفي اليوم الثالث حضر نفر من كبار آل سعدون، ومعهم آل خيون شيوخ بني أسد، وتويلي شيخ الحسينات وتوسطوا بين قبائل المجرة ووجوه المدينة من النجديين والحضر والبغادّة، فتعهد سعدون المنصور بمبلغ من المال يدفعه تجار السوق نجديهم وحضريهم لضيدان بن فهد شيخ قبيلة حجام، على صورة (خاوه) نقدية