كان من أعمر الطرق منذ كان الإسلام، وكأن رحلتي في النهر الماضي إلى الحجاز وجنوبي الشام ونزولي على أهل البادية من أهل المدر والوبر كانت مقدمة لما امتحنت به هذا الشهر من مؤاكلة الأعراب في صفحة واحدة، وفقدان الملعقة والشوكة والسكين والفوطة والكأس، والأكل من طعامهم ثمّن العراق وجريش الحنطة والتمر والخبز الممول بالملة أو على الساج يُسجر ببعر الأباعر، والرمال تسفو فتدخل كل ما يعمل هناك من خبز وأدم، وكل مطبوخ ومعجون.
ولقد حملوا لي الماء في قربة فما هي إلا ساعات حتى تغير منه الطعم واللون والرائحة، وبقيت خمسة أيام أسقي من هذا الماء وأعده نعمة بالقياس إلى مياه الجفار البشمة المهوعة، وهي بعض ماء البحر روقتها الرمال قليلًا.
وأذكر أن (خويي) المحيسني ناداني مرة، وجمالنا مسرعة في طريقها، وحاديها يحدو لها بصوت يذكر بنجد وأهل نجد، فالتحقت به مسرعًا، وما اتحرفنا دقائق عن قارعة الطريق حتى كنا وسط فريق من العرب فاستسقي فأتوه بركوةٍ شرب منها وأعطاني فإذا بها لبن رائب ثم أرادني أن أشرب وأشرب، وأردت أن أعطيهم شيئًا فأشار إليَّ ألا أفعل.
وكنت أتمنى شربة واحدة من هذا اللبن كل يوم وأدفع فيها جنيهًا وأنا غير مغبون، وكنا مرة نزولًا على بئر أنشيء على عهد الخديوي عباس الثاني، وعليه كتب اسمه، فأتاني وليد بمقطف من الطماطم (البندورة) الصغيرة فأحببت أن أعطيه ريالًا فصرخ خوبي (بشلك) ثم قال لي: إذا توسعت في إكرام البدو هذا التوسع تضر بنا فنحن لا نزال نجتاز بهم طول السنة فإذا تعودوا الكثير نضطر أن نعطي كل مرة كما أعطيت فلا يستقيم لنا بعد ذلك حال معهم.
وكنت في الليلة التي نجتاز في صباحها برفح آخر الحدود العثمانية المصرية قلقًا جدًّا، وقضيت ليلي وأنا في هواجس أدبر وأقدر، وسرت قبيل