الفجر أمام قطار الجمال وأنا أقول في نفسي: الآن فصل الخطاب فإما أن أنجو وأدخل أرض مصر ممتعًا بالنعيم بعد هذا الشقاء، أو أعود أدراجي وأنا في قبضة الترك إلى مُطبق من مطابقهم، ألقى ما ألقى من معاملتهم الجائرة.
وبعد خمس ساعات سألت المحيسني متى نبلغ رفح فقال: قطعناها منذ كذا ساعة ودفعنا عنك للجندي ثمن علبة دخان لما اعترضنا قائلا إن إخراج الخيل من الأرض العثمانية ممنوع، فأقنعناه بأن هذا الحصان راعي الجمال الذي تراه، فأخذ (البشلك) وهي قطعة تساوي قرشين، ولم يمسسنا بسوء ولم يحقق من أمرنا غير ما رأي.
وسعدت في هذه الرحلة أن رأيت بين الشام ومصر صورة مصغرة من عيش أهل جزيرة العرب، وذلك بالاختلاط مع تجار الجمال ورعاتها، وكلهم نجديون لا يعرفون الفضول، وما رأيت أحدًا سأل خويي عبد العزيز عني بالإشارة ولا بالعبارة، وكانوا في كل مساء وصباح يختلفون إلينا ونختلف إليهم ونشرب القهوة معًا، وحديثهم في البعير وسوقه ورعيته وثمنه ورواجه وكساده، ولم أسمع في أربعة عشر يومًا بلياليها كلمة هجر وبذاء، ولا تجديفًا ولا لمتًا ولا نميمة ولا غيبة ولا كذبًا ولا منكرًا، وكان أولئك الأعراب مواظبين على صولاتهم، يتيممون بالرمل إذا أعوزهم الماء ولا يسرفون فيه إذا وجد، وأنست بلهجتهم وفيها كثير من الفصح ولها رنة تطربك.
نزلت في الخيام في الشهر الذي وقع قبل هذه الرحلة ثلاث ليال في أرض إبل على شيخ من عرب الشرور اسمه محمد إبراهيم، وأخرى في بير البيطار على محمد أبي الفرج شيخ بني عطا وهذان المنزلان على مقربة من وادي موسى، وبت ليلة في الزبزاء (الزيزة) عند صديقي فواز بن سطام شيخ مشايخ بني صخر فرأيت العيش البدوي على اختلاف درجاته، وكان العيش في الليلتين اللتين قضيتهما في بلاد الشراة (ديمقراطيًا)، وفي أرض البلقاء (ارستقراطيًا) نمنا