للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مذهب معين؟ وإذا كان العلماء لا يصح لهم أن يخرجوا عن مذاهبهم؟ فما هو حكم خيار هذه الأمة الذين سبقوا عصر المذاهب والتابعين وتابعيهم؟

جـ: اعلم إن الصحابة والتابعين وهم خير القرون الذين قال عنهم النبي -صلى الله عليه وسلم- (خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (١) الحديث، ما كانوا يعرفون التقليد لمذهب محدود ولا يقلدون إماماً معيناً، بل كان منهم العالم ومنهم الجاهل، فكان الجاهل يسأل أيَّ عالم فيفتيه العالم بما يعرفه في المسألة المسئول عنها، ولم يكن الناس في تلك القرون أو في تلكم العصور أو في عصر الصحابة والتابعين كلهم من العلماء المجتهدين، ولا كان الناس يقلدون عالماً بعينه في جميع المسائل المتعلقة بالمعاملات أو العبادات أو بعبارة أخرى بالمسائل التعبدية وبالمسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية، وبالمسائل المتعلقة بالأحوال المدنية، وبالمسائل المتعلقة بالأحوال الجنائية، والدليل على المسألة الأولى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه يعدون بالآلاف ولم يعرف عنهم جميعاً أنهم كانوا كلهم علماء يفتون الناس في الصلاة والصيام والزكاة والحج والنكاح الطلاق والمواريث والبيع والشراء وجميع مسائل الدين الشرعية، بل الذين كانوا يفتون الناس جماعة معروفه، لا يتجاوز عددهم المائة أو التسعين منهم، وذلك كالخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين، وغير هؤلاء ممن حفظوا الأحاديث الكثيرة، والبقية الواحد منهم يسأل غيره فيفتيه بما يرى ولم يكن كل واحد من الصحابة عالماً مجتهداً يستنبط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، بل كان الجاهل يسأل العالم كما كان العالم يسأل العالم الآخر عما لا يعلمه، أو يدل العالم الجاهل على عالم آخر ممن يظن أنه أعرف بالمسألة منه، وهكذا كان الأمر في عصر التابعين، فقد كان علماء المدينة يفتون الناس ولا يتجاوز عددهم المائة أو التسعين والبقية وهم الآلاف من الناس كانوا يسألون غيرهم، وقد اشتهر من التابعين (سعيد بن المسيب) و (سعيد بن جبير) و (الحسن البصري) و (محمد بن سيرين) و (الشعبي) و (مكحول) و (عطاء)، وغيرهم.

والدليل على المسألة الثانية: أنا لم نسمع أن جماعة التزموا التقليد لابن عباس أو أن جماعة كانوا يقلدون أحد الخلفاء الراشدين أو ابن مسعود أو ابن عمر، بل ولا سمعنا أن أحدا كان مقلداً لأحدٍ من الصحابة المذكورين آنفاً أو لغيرهم من الصحابة أو التابعين، ولم يعرف أن هناك جماعة من الناس قد تبعوا عبد الله بن عباس في جميع المسائل الشرعية والصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج أو النكاح أو الطلاق أو كان يوجد مذهب علوي أو عمري أو مسعودي أو عائشي أو مكحولي أو لمن تبع الإمام علي في كل شيء أو لمن يقلده في جميع المسائل الشرعية أو يقلد عمراً أو ابن مسعود أو عائشة أو الحسن البصري أو سعيد بن المسيب أو مكحول، كما سمعنا أخيراً باسم الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي والزيدي والجعفري والظاهري والإباضي، لمن يقلد أبا حنيفة أو الشافعي أو غيره فهذه المذاهب لم تظهر إلا بعد عصر الصحابة و التابعين فجمد الناس عليها جمدوا على الأربعة المذاهب فقط، وزعم بعض الناس أنه لا بد للمسلم أن يكون متمذهباً لأحد المذاهب الأربعة وإن لم يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة فهو مبتدع، ولكن الصحيح الذي عليه المحققون أنه لا يقتصر على المذاهب


(١) صحيح البخاري: كتاب الشهادات: باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد. حديث رقم (٢٤٥٨) بلفظ (سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، قَالَ عِمْرَانُ: لَا أَدْرِي أَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ).
أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، والترمذي في المناقب، وابن ماجة في الأحكام، وأحمد في مسند المكثرين من الصحابة، ومسند الكوفيين.
أطراف الحديث: المناقب، الرقاق، الأيمان والنذور.

<<  <  ج: ص:  >  >>